مشاهد أمريكية عن قرب

04:14 صباحا
قراءة 4 دقائق

قضيت أسبوعاً في مدينة نيويورك أتلمس خطى المجتمع الدولي تجاه مصر، وأرصد ما يقال عنها، وأستمع إلى ما يتردد فيها، حيث عشت هناك أيامًا أحاضر وأحاور وأستشفي أيضاً! ولقد خرجت بحصيلة أرى من حق المواطن المصري بل والعربي أن يكون على بينة منها وإدراك لها، لأن صورتنا عن أنفسنا ليست بالضرورة هي صورة الآخر عنا، ومهما كانت فكرة غيرنا صادمة أو نظرته ظالمة، فإنه يتعين علينا أن نتعامل معه بمنطق يقوم على طرح الحقيقة وتصحيح الصورة، وتوجيه خطاب إعلامي معاصر يكون قادرًا على تفنيد الادعاءات والرد على الافتراءات وتصحيح المفاهيم وترشيد الرؤى، ولعلي أسوق هنا من خلال النقاط التالية ما يستحق التأمل ويحرض على التفكير:

أولاً: إن تأثير جماعة الإخوان المسلمين خارج مصر لا يقل عنه داخلها، بل قد يزيد، ففي مدينة نيويورك وهي أكبر مدينة أمريكية ويهودية في العالم ما يزيد على تسعين مسجداً إسلامياً، وهذا أمر يسعد أي مسلم، ولكن الذي حدث أن هذه المساجد قد جرى اختراقها من جانب تيارات إخوانية وجماعات سلفية، وصلت إلى الجيل الثاني والثالث من المهاجرين العرب والمسلمين، حتى أنك تجد شاباً أمريكياً مسلماً من أصول عربية أو غير عربية وقد لا يتحدث إلا كلمات عربية مكسورة، ولكن العقيدة تجري في دمائه، فقد جرت له عملية غسل مخ منذ الطفولة، جعلت فكرة الوطن ضائعة وصنعت من الإسلام قومية أكثر منه ديناً، وإذا تحدثت إلى أحدهم فسوف تجد أنها عبارات واحدة وكلمات مكررة جرت بطريقة التلقين ولم تعتمد على تفكير ولا رؤية ولا احتكام لعقل .

ثانياً: إن ما جرى في الثلاثين من يونيو، والثالث من يوليو والسادس والعشرين من يوليو من هذا العام، قد جرى تحويله لدى قطاع كبير من الرأي العام إلى عمل انقلابي يفتقد الشعبية، فالبطولة لديهم هي اعتصاما رابعة العدوية وميدان نهضة مصر وترسانة السلاح في كرداسة، أما ما عدا ذلك فهو مزيد من إنكار للحقيقة، وتزييف للواقع، وتغييب كامل لإرادة الشعب المصري وملايينه التي خرجت مرات عدة لتسقط نظاماً أو لتعطي تفويضاً، أو لتعبر عن رفضها لحكم فصيل يريد أن يفرض وصايته على الوطن وأن يجرد مصر من هويتها العصرية، بل إنني أزعم أن الإسلام السياسي قد أضرّ بالإسلام الحنيف، ووضعه في موقع دفاعي، بل وفي صدام دائم على خط المواجهة مع الآخر .

ثالثاً: إنني أرى أن الرواية طويلة وأنه يتعين علينا أن نبذل جهدًا ضخماً لوضع الرأي العام العالمي على المستويين الرسمي والشعبي أمام الحقيقة، مؤكدين أنه ليس كل الإخوان المسلمين أدعياء أو مجرمين، وليس كل السلفيين حمقى أو غافلين، فالصورة يجب أن تتضح لدينا أولاً بحيث ندرك أننا يجب أن نجلس جميعاً إلى مائدة واحدة، مهما طال الصراع واشتد العداء وسالت الدماء إذ لابد أن نلتقي على كلمة سواء، فنحن جميعاً مصريون سواء اكان انتماؤنا إلى تيار إسلامي أو ليبرالي، سواء كنا يساريين أو قوميين أو ناصريين، ولا يلغي أحدنا دور الآخر، إلا ما يأتي بحكم القضاء أو يكون تنفيذاً لنص القانون، فالتجريم ليس كلمة سهلة، والتخوين عبارة خطرة، والتعميم مشكلة حقيقية إذ لابد من الاحتكام إلى العقل في نهاية المطاف .

رابعاً: إن الوقفة العربية وخصوصًا من دول الخليج تجاه مصر قد عززت كثيرًا من وضعها على الصعيدين الدولي والإقليمي، ورفعت من معنويات الشعب المصري، وجعلت دعاة التشدد والتعصب والتطرف حبيسي إطار معين، ورسمت لهم صورة ذهنية لدى العقل الغربي استطاعت أن تنال إلى حد كبير من الحملة الطاغية التي روجت لها عناصر الجماعة وغيرها من التيارات المعادية للقوات المسلحة المصرية، والطامعة في وراثة الدور المصري وإقامة دولة دينية على أنقاض قرني النهضة التاسع عشر والعشرين والمد القومي والدور الإقليمي . فليست مصر هي المهمة ولكنها الجائزة الكبرى لمن يريد أن يضغط بمخالبه على الأعصاب الحساسة في المنطقة، ويدس أنفه في شؤون الشعوب والمجتمعات بمنطق قد لا يوافق عليه الجميع .

خامساً: إنني أظن مخلصاً أن الهوة في التفكير بيننا وبين الغرب هي أن صندوق الانتخابات مختلف لدينا عما هو لديهم، فالفقر قنبلة موقوته، ولا رأي لمحتاج ولا حرية لجائع، وقد يقول قائل: ويحك . . وماذا عن الهند أكبر ديمقراطيات الأرض؟ والجواب الفوري هي أن المرشحين هناك لا يغازلون الجماهير بشعارات دينية ولا يدغدغون مشاعر البسطاء بنصوص مقدسة خصوصاً أن للمصريين تاريخاً طويلاً مع الأديان المتجذرة على أرضهم، فإخناتون هو أول من توصل إلى وحدانية الإله، كما أن المصريين القدماء قد واجهوا لغز الموت واحتمال الحياة الثانية بمزيد من التدين، حتى أصبح الحاكم هو ابن الإله، فالتركيبة المصرية فريدة، فيها مزيج من التفكير المادي والملامح الروحانية . وحين وصل الإسلام الحنيف إلى الكنانة استقبلت أرضها الدعوة المضيئة، بل واستضافت أهل البيت في القرن الأول الهجري . وقبلت بالمذهب الشيعي الفاطمي لما يقرب من قرنين، حتى انصهرت صلوات الكنائس مع مزارات أولياء الله الصالحين في بوتقة واحدة هي مصر التي لا نظير لها .

. . هذه تأملات صنعتها رحلة قصيرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وأنا أعترف أن الموقف هناك يتحول إلى مصلحة الدولة المصرية يوماً بعد يوم، كما أن البنتاغون (وزارة الدفاع الأمريكية) يبدو حليفًا وداعمًا لنظيره المصري ومدركًا للقيمة الإستراتيجية لدوره، لذلك فإن الحديث عن قطع المعونة الأمريكية لمصر هو استهلاك أمريكي محلي وهراء لا معنى له، فمصر تحارب الإرهاب في سيناء بسلاح أمريكي، ولا تلعب على الحبال بين القوى المختلفة، كما يتوهم البعض، فمصر أكبر وأعمق وأعقل من أن تتأرجح بين قوى دولية مختلفة، فالحرب الباردة انتهى أوانها وصراع المعسكرين أضحى اقتصادياً ولم يعد سياسياً على الإطلاق، ولعل تطورات المسألة السورية هي خير تأكيد على التقاء القوى الكبرى عند نقطة المصلحة التي ترضي إسرائيل في المنطقة، وتحمي المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط، إن المشهد الأمريكي ليس بالسوء الذي نتصوره، كما أن جماعة الإخوان المسلمين ليست بالضعف الذي نتوهمه، ولكن إرادة الشعب هي قانون الحياة وركيزة النظام السياسي وقاعدة الانطلاق نحو المستقبل الأفضل .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"