الأرقام قد تكذب أحياناً

01:54 صباحا
قراءة 3 دقائق
عاصم عبد الخالق
الأمريكيون أكثر شعوب الأرض غراماً بالأرقام والإحصائيات، وأشدها ولعاً باستطلاعات الرأي واهتماماً بنتائجها. يبني السياسيون حساباتهم على أساس تلك النتائج. وبناء عليها يحددون مواقفهم ويعدلونها تبعاً لتغير توجهات الجمهور. والانتخابات الرئاسية التي تجري معركتها النهائية حالياً ليست استثناء من هذا الهيام التقليدي بالأرقام. وإذا كان من المستحيل الاستغناء عن الاستطلاعات كوسيلة لقياس الرأي العام ومعرفة توجهاته، فإن الاستسلام لنتائجها واعتبارها عنواناً للحقيقة خطأ وخطر في الوقت نفسه.
وفقاً لأرقام الاستطلاعات فإن المرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون هي الرئيسة القادمة للولايات المتحدة. ويحدد مركز «فايف سيرتي ايت» المتخصص في تحليل نتائج الاستطلاعات فرص فوزها بنحو 88,8% مقابل 11,1% لمنافسها الجمهوري دونالد ترامب. غير أن هذه الأرقام ليست إلا وجهاً واحداً للحقيقة، ليس فقط لأن المفاجآت تظل متوقعة من الآن وحتى يوم الانتخابات، ولكن أيضا لوجود ثغرات في أسلوب ومنهج عمل الاستطلاعات. وهذا هو الوجه الآخر للحقيقة الذي تحدثت عنه مجلة نيشن الأمريكية في تقرير مهم نشرته الأسبوع الماضي.
يوضح التقرير أن الثغرة الأولى التي تضعف مصداقية الاستطلاعات هي أن الكثير من الناخبين يكذبون على مندوبي الاستطلاع بشأن آرائهم الحقيقية، إما خجلاً منها أو رغبة في الظهور بصورة إيجابية أمام الآخرين. تطبيقاً على الواقع فإن الكثيرين ممن يؤيدون ترامب لا يعلنون ذلك في الاستطلاعات بسبب مواقفه المتطرفة والعنصرية. من هنا تأتي النتائج في غير صالحه، بينما في الانتخابات سيدلي هؤلاء الذي يكذبون أو يتجملون اجتماعيا برأيهم الحقيقي المؤيد له.
هذه الظاهرة ليست جديدة ويطلق عليها بعض الصحفيين اسم «عامل برادلي» في أشارة إلى توم برادلي العمدة الأسود لإحدى مدن كاليفورنيا الذي ترشح لمنصب حاكم الولاية عام 1982 ورجحت كل الاستطلاعات فوزه ولكنه خسر. السبب هو أن كثيرين ممن شملهم الاستطلاع ادعوا كذباً تأييدهم له حتى لا يظهروا كعنصريين يعادون انتخاب حاكم أسود. الأمر نفسه يمكن أن يتكرر هذه المرة ويتضح أن الأمريكيين ليسوا راغبين في انتخاب امرأة، ولكن لا يجرؤون على التصريح بذلك في الاستطلاعات.
تنبه الخبراء مبكراً لإمكانية حدوث ذلك، ورصدوا بالفعل تبايناً مهماً في النتائج بين الاستطلاعات التي يجريها المندوبون وجهاً لوجه أو هاتفياً مع الناخبين، وتلك التي تتم إلكترونياً عبر الإنترنت ولا يكشف فيها المجيبون عن هوياتهم. وسبق أن نشرت نيويورك تايمز دراسة مهمة حول هذه المسألة في مايو أيار الماضي أثبتت فيها أن أداء ترامب يكون أفضل في الاستطلاعات الإلكترونية. واستشهدت بتحليل أجرته مؤسسة «ريال كلير بوليتيكس» لنتائج عشرة استطلاعات هاتفية تقدمت فيها هيلاري بتسع نقاط على ترامب. بينما أظهرت نتائج استطلاعات إلكترونية أجراها في التوقيت نفسه موقعا «يوجوف» و«مورننج كونسولت» أن تقدم هيلاري لم يتجاوز 4 نقاط فقط.
يعني هذا أن شعبية ترامب الحقيقية أكبر مما تعكسه الاستطلاعات التقليدية. ومن الطبيعي أن القيود التي يفرضها مؤيدوه على أنفسهم في الإجابة عن أسئلة المندوبين لن يكون لها وجود في لجان الاقتراع.
سبب آخر يدعو للتحفظ في التعامل مع نتائج الاستطلاعات يتعلق بآلية احتساب أصوات الجمهور. لا تسجل مراكز القياس في نتائجها سوى آراء من تصفهم «بالناخبين المحتملين» أي الذين ترجح مشاركتهم في الانتخابات. المقياس المعتمد لتحديد هؤلاء هو أن يكونوا قد شاركوا في الانتخابات الماضية. ولا يكفي أن يقرر الناخب أنه ينوي الذهاب هذه المرة. هذا التصنيف مضلل لاسيما وأن 40% من الناخبين المسجلين لم يدلوا بأصواتهم في آخر دورتي انتخابات رئاسية. وهؤلاء تستبعدهم الاستطلاعات رغم أن كثيرين منهم سيشاركون هذا العام.
بسبب هذا الخطأ المنهجي تعرض مركز جالوب أحد أهم مؤسسات قياس الرأي العام وأكثرها مصداقية لكارثة مهنية في انتخابات 2012 عندما توقعت استطلاعاته فوز المرشح الجمهوري ميت رومني على أوباما. الخطأ كان بسبب قاعدة «الناخب المحتمل» التي طبقها المركز واستبعد بمقتضاها قطاعات ضخمة من مؤيدي أوباما لم يشاركوا في انتخابات 2008.
يراهن ترامب على هذا الثغرة حيث تركز حملته على استقطاب المستبعدين من الاستطلاعات خاصة الرجال البيض من الطبقة العاملة. وهؤلاء قاطعوا انتخابات 2012 رفضاً لأوباما ورومني معاً. ومن المرجح أن يعطوا أصواتهم لترامب.
أخيراً شخصية هذا المرشح الجمهوري الاستثنائية، ونجاحه في انتزاع ترشيح الحزب رغم التكهنات بفشله، ثم المزاج المتقلب للناخب الأمريكي، ونزوعه للتغيير، والتمرد على كل ما هو تقليدي، عوامل إضافية تدعو لتوخي الحذر في التعامل مع نتائج الاستطلاعات. لا نقول إنها كاذبة، ولا نقطع بصحتها. كل الاحتمالات تظل مطروحة ومفتوحة حتى الثامن من نوفمبر تشرين الثاني المقبل.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"