ربع قرن على سقوط جدار برلين

06:58 صباحا
قراءة 4 دقائق
د . غسان العزي
في التاسع من نوفمبر/ تشرين الثاني 1989 تظاهر الآلاف من سكان برلين الشرقية أمام الجدار الذي يفصلهم، منذ أغسطس/ آب ،1961 عن برلين الغربية مطالبين بحقهم في عبوره . وبعد ساعات قليلة بدأ متظاهرون يتقاطرون من الجانب الغربي تضامناً،قبل أن تبدأ الجموع الغاضبة من الطرفين في تحطيم الجدار أمام عجز قوات الأمن الشيوعية التي لم تتلق أمراً بالتصدي . وفي أيام قليلة ومن دون إراقة دماء سقط النظام الشيوعي في ألمانيا، كما سقط "الجدار الحديدي" الذي كان رمزاً لانقسام العالم بين معسكرين إايديولوجيين متخاصمين . وبعدها بعام واحد عادت ألمانيا واحدة موحدة بزعامة هلموت كول .
الفرحة كانت عارمة في العالم أمام انتهاء الحرب الباردة بين الجبارين النوويين، والأمل بفتح صفحة جديدة من السلام والتعاون الدوليين . كل الخطاب الإعلامي والسياسي العالمي سلك هذا الاتجاه . حتى إن رئيس الوزراء الفرنسي الاشتراكي ميشال روكار علق في مقابلة تلفزيونية على صور المتظاهرين وهم يهدمون الجدار بالقول "ها هو يتحطم جدار العار، من اليوم وصاعداً لن تكون هناك حروب أو نزاعات في العالم . ها هو السلام العالمي يطل أمام أعيننا" . هذا ما كان قد تنبأ به فرنسيس فوكوياما في كتابه ذائع الصيت "نهاية التاريخ" الذي يعلن انتصار قيم الديمقراطية والحرية الغربية ونهاية الصراع في العالم . لكن لم تنقض أشهر معدودة حتى عادت الحرب من أوسع الأبواب في يوغوسلافيا . وبدل أن يعلن حلف الأطلسي عن حل نفسه، على غرار ما فعل حلف وارسو، اتخذ، في العام ،1992 القرار بتجديد نفسه وتوسيع مهامه وبدأ بالترويج لتهديد جديد سماه "الإسلام الاصولي"، قبل صدور مقالة صموئيل هانتنغتون عن "صدام الحضارات" في العام 1993والتي دفعه انتشارها الى توسيعها في كتاب، نشره في العام ،1996 ترجم الى كل اللغات العالمية .
وبدل أن تنتهز واشنطن الفرصة للعمل على بناء نظام عالمي جديد أكثر عدالة واستقراراً تصرفت كمنتصر في حرب كبرى يفرض شروطه على مهزوم فيها هو الاتحاد السوفييتي/ روسيا . هذا ما سيعبر عنه المحافظون الجدد الأمريكيون الذين دعوا الرئيس كلينتون الى اغتنام فرصة ضعف روسيا اليلتسينية من أجل السيطرة مرة واحدة والى الأبد على العالم، وهو ما سيحاولون تطبيقه بعد وصولهم الي السلطة مع جورج بوش الابن .
وها نحن بعد ربع قرن على تحطم جدار برلين نعيش حروباً "حامية" في الشرق الأوسط، وحرباً "باردة" جديدة بين روسيا والولايات المتحدة . حلف الأطلسي بات يعتبر أن روسيا هي التهديد الرئيسي للأمن في الغرب بالإضافة الى "داعش" ومرض "إيبولا"، وهو يستعد لنشر قوة تدخل سريع قريباً من الحدود الروسية ولإقرار المزيد من العقوبات الاقتصادية على موسكو . من جهتها هذه الأخيرة تلجأ الى الاستفزاز النووي تذكيراً للغرب بكلفة الاعتداء العسكري عليها من البوابة الأوكرانية أو غيرها، وفي الوقت نفسه تسعى إلى بناء تحالف مع الصين ضد الولايات المتحدة التي تستعد للاستدارة نحو آسيا-الباسيفيك لمواجهة بكين . وتبدو الأمور وكأن معسكرين جديدين يتواجهان في حرب باردة ليس على أساس إيديولوجي ولكن استراتيجي وأمني . لقد حلت أوكرانيا محل ألمانيا كساحة للحرب الباردة الجديدة وقد تعمد الى بناء جدار على حدودها مع روسيا لحماية نفسها منها .
في العام 1997 أعلن رئيس الوزراء الأسترالي بول كيتينغ فيما يشبه التنبؤ: المسألة الكبرى بالنسبة لأوروبا ليس في إدماج ألمانيا، فهذا قد حصل، ولكن في إدماج روسيا في قارة آمنة للقرن المقبل" . لم ينتبه أحد لتحذير كيلينغ وغيره من المحللين الذي رأوا أن الغرب يتعامل مع روسيا كبلد من الدرجة الثانية خرج من هزيمة مدوية وعليه الانصياع لرغبات الاطلسي وبروكسل .
وإذا كانت روسيا وقتها تخبطت في حبائل الانتقال من الشيوعية الى الليبرالية في عهد يلتسين فإن خليفته بوتين جاء ليكشف عن عزمه على إعادة بلاده الى أمجادها السابقة . وهذا ما انكب عليه في الساحتين الداخلية والخارجية، قبل أن يفاجىء العالم، في مؤتمر ميونيخ في فبراير/شباط ،2007 بالكلام عن "الذئب الأمريكي الذي لا يفهم سوى لغة العصا" والإعلان عن خطوط حمر أمام الغرب يعني اجتيازها تهديداً للأمن القومي الروسي . وقتها بدأ المراقبون يتوجسون من عودة محتملة للحرب الباردة . ثم كانت الحرب في جورجيا، العام ،2008 ثم في سوريا والمستمرة منذ العام ،2011 واليوم الأزمة الأوكرانية بعد ضم روسيا للقرم ودعمها لدعاة الانفصال عن كييف . وهناك من المراقبين من ينظر الى القوقاز ومولدافيا ودول البلطيق كبراميل بارود محتملة .
لقد أعلن بوتين بأن سقوط الاتحاد السوفييتي كان الحدث الأسوأ في القرن العشرين . ويبدو بأن آخر زعيم سوفييتي، غورباتشوف صاحب "البريسترويكا" و"الغلاسنوست" والذي يعزى إليه سقوط المعسكر الشرقي، يشاطره الرأي . إذ سبق وعبر عن خيبة أمله وغضبه من "عقدة التفوق التي يشعر بها القادة الأمريكيون حيال روسيا" . وفي الذكرى الخامسة والعشرين لسقوط جدار برلين حذر من أن العالم على عتبة حرب باردة جديدة معلناً بأنه يؤيد سياسات بوتين الذي يدافع عن روسيا . هذا ما قاله للمستشارة الألمانية ميركل التي دعته الى المشاركة في الاحتفالات بهذه الذكرى .
جدار سقط، وجدران تنتصب في عالم لا يزال ينوء تحت كل أشكال الحروب الساخنة منها والباردة .
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"