حلم العودة إلى العزلة الأمريكية

03:37 صباحا
قراءة 3 دقائق
عاصم عبد الخالق

منذ أن تبوأت أمريكا موقعها في قيادة العالم كقوة عظمى بعد الحرب العالمية الثانية، لم يتوقف الجدل بين نخبتها السياسية حول حدود دورها في العالم، وهل من مصلحتها مواصلة التورط في أزمات وحروب خارجية، أم معاودة الانكفاء على الذات والاستمتاع بعزلتها الاختيارية.
تتجدد المناقشات حول هذه القضية بين حين وآخر. وقد أصبحت مطروحة بقوة بعد انتهاء الحرب الباردة وانتصار أمريكا الذي عزز موقف أنصار الانكفاء على الذات، بدعوى أنه لم يعد هناك ما يستدعي استنزاف المزيد من الطاقات البشرية والموارد في نزاعات غير وجودية بعد زوال الخطر السوفييتي.
كسب هذا التيار أرضية جديدة بسبب نزيف الخسائر البشرية والمادية في حرب العراق. وكان الانسحاب من هناك أحد تجليات المد الانعزالي. ثم كسب نفس الاتجاه زخماً غير مسبوق بانتخاب الرئيس دونالد ترامب الذي رفع شعار «أمريكا أولاً»، وبناء عليه ألمح إلى رغبته في الانسحاب من حلف الناتو، وتقليص الالتزامات الأمنية الخارجية، أما إذا استمرت فيجب تسديد الفاتورة بالكامل. وتعهد بالانسحاب مما يصفه بالحروب الأبدية في الشرق الأوسط.
لن تحسم واشنطن موقفها قريباً، إلا أنها، ولو لم تنكفئ على نفسها، لن تكون مشاركتها في الأزمات الخارجية بنفس الحيوية التي كانت عليها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. لهذا يحتاج العالم إلى فهم أكثر وضوحاً وواقعية لطبيعة الجدل الدائر حالياً بين النخبة الأمريكية بشأن مستقبل الدور الخارجي لبلادهم حتى لا يصدم أحد بسياسات وقرارات لن تكون مفاجئة في الحقيقية.
قد لا يعرف كثيرون أن الداعين إلى العودة إلى جنة العزلة الأمريكية ليسوا فريقاً واحداً، ولكنهم اثنان، أحدهما يتكون من منشقين عن التيار الليبرالي، ويطلق عليهم الكاتب الأمريكي توماس رايت اسم التقدميين، وهو ما يوضح إلى أي حد تمددت دعوة العزلة، وهي يمينية بطبيعتها، إلى الحد الذي باتت تكتسب أرضية ودعماً داخل صفوف الديمقراطيين والليبراليين.
الفريق الآخر يسميه رايت الواقعيين، وهم الدعاة التقليديون للعزلة بأشد درجاتها. يتفق الجانبان على أن أمريكا ستكون أفضل إذا اهتمت أكثر بشؤونها بدلاً من شؤون الآخرين. يتفقان أيضاً على أنها استنزفت الكثير من مواردها في الدفاع عن بلدان كان يجب أن تتولى هذه المهمة بنفسها. وأن أمريكا ليست مضطرة لتحمل هذه الأعباء، لأنها في مأمن بحكم موقعها الجغرافي وترسانتها النووية.
ويطالب الفريقان بخطوتين أساسيتين لتنفيذ العزلة؛ الأولى تقليص الالتزامات الأمنية تجاه أوروبا وآسيا، والانسحاب من الشرق الأوسط وأفغانستان سواء بالكامل أو جزئياً. الخطوة الثانية هي تقليل النشاط الخارجي لأمريكا، بحيث لا تتورط في حروب إلا إذا واجهت خطراً حقيقياً وبشرط موافقة الكونجرس، مع الاعتماد أكثر على الدبلوماسية والأدوات الاقتصادية لمواجهة الأزمات الخارجية.
وتثير قضية المواجهة مع الصين انقساماً واضحاً بين الفريقين، بل بين الواقعيين أنفسهم، إذ يتمسك معسكر منهم بالإبقاء على قوة عسكرية في آسيا لاحتواء التهديد الصيني، بينما يطالب آخر بأن تتحمل دول المنطقة هذا العبء. وينصح فريق ثالث بالاعتراف بما يسميه الفضاء الإقليمي لنفوذ الصين وروسيا، وبذلك على أمريكا ألا تنازعهما في هذا النطاق الجغرافي الطبيعي، بما في ذلك تخليها عن تايوان.
وفي حين يرى الواقعيون أن الانكفاء الأمريكي سيؤدي إلى اندلاع منافسات إقليمية ضارية لسد الفراغ الذي ستتركه بلادهم، وأنه لا بأس من ذلك، فإن التقدميين يتوقعون العكس، أي أن ينعم العالم بمزيد من السلام والاستقرار والتعاون، لأن الوجود الأمريكي يثير التوتر والاضطرابات.
وأياً كان حجم الاختلاف بين الجانبين، فمن المؤكد أن أصواتهم تسمع بقوة في دوائر صنع واتخاذ القرار في واشنطن، والتي لم يعد بإمكانها تجاهلهم، ولن تجد مفراً من الأخذ ولو جزئياً بمطالبهم. لذا يجب أن يستعد العالم، والشرق الأوسط في مقدمته، لدور أمريكي مختلف أقل حجماً وسخاء، وكما يقول أنصاره: لقد انتهى زمن الركوب المجاني.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"