الكتاب ودفء المكان

02:33 صباحا
قراءة 3 دقائق
محمد عبدالله البريكي
ليس الكتاب وحب اقتنائه هو ما جعلني أقطع مسافة طويلة فيها بعض التحويلات الطارئة للوصول إلى المكان والمرور على العارضين والناشرين وتفحص الجديد الذي يقدم للقارئ أو حتى الكتب السابقة التي ربما فقدها أحد المطلعين، ويحاول أن تعود إلى رف مكتبته لينهل منها أو يسترجع ما استقاه من معينها، إنما هو ذلك الدفء المنبعث في المكان وتجده بين ممرات المعرض وتلمسه في ابتسامة الموجودين، كأنك تصافح قلوبهم قبل أن تصل يدك إليهم .
معارض الكتب فرصة حقيقية للباحثين عن المعرفة والكتاب المفقود، ولا أحد ينكر أثرها في الحرب الضروس على الجهل والتخلف عن ركب المعرفة والمعلومة، فالكتاب ليس توثيقاً لمعلومة وحبسها في زمن أو في الورق، إنما هو اتصال وتواصل، هو تبادل وتدوير، هو استعادة وتجديد للمعلومة وإعادة بعث وإحياء للذاكرة وتنشيطها، فذاكرة الإنسان قد تصدأ مع الزمن في ظل غياب ما يساعد على إزالة تراكم غبار النسيان عليها، ولذلك فإن العرب يمجدون القراءة ويولونها حقها حتى إن مرت بهم فترات أبعدتهم عنها، ولا ينسون أن أول ما نزل من الوحي هو الأمر بالقراءة في قوله سبحانه: "اقْرَأْ بِاسْمِ رَبكَ الذِي خَلَقَ" .
ويرى عباس العقاد أن القراءة تطيل العمر، وحين سئل أرسطو عن كيفية الحكم على الإنسان أجاب: اسأله كم كتاباً قرأ، وماذا يقرأ .
القراءة وحدها لا تكفي للخروج بمحصلة علمية ومعرفية تقوي أدوات الإنسان لتجعله قادراً على محاربة التخلف والجهل، فمن دون الفهم قد يكون كالذي يحمل على ظهره الأسفار، ولا يعي ما فيها من كنوز ومعارف .
زرت قبل أيام قريبة معرض رأس الخيمة للكتاب، فوجدت حراكاً دافئاً جميلاً، وجدت حضوراً يقترب من الكتاب بعفوية وحميمية بعيدة عن التراص والتزاحم في الممرات، وجدت محاضرات وندوات وأمسيات شعرية تكاد تقترب فيها القلوب في المسافة أكثر من قرب من يجلس على المنصة من الذين يحتفون بإبداعه، ويستمعون إلى ما لديه من نتاج معرفي ثم يتم بعد ذلك نقاش يبتعد عن التعصب أو التشنج وصولاً إلى المعلومة والفائدة من أقصر الطرق، وما يساعد على هذه الأجواء الحميمية هو طبيعة المجتمع وترابطه الاجتماعي الذي تكاد تلمسه في كل زيارة إلى ذلك المكان، وأرى أن هذه ميزة تخدم الثقافة، فكلما كان صاحب العلم والمعرفة قريباً بإنسانيته من الآخرين وبادلوه الذات الإنسانية، كلما كان النقاش أكثر فائدة .
وعلى الرغم من أن حضور معرض رأس الخيمة للكتاب لا يقارن ببعض معارض الكتب التي تزدحم بمرتاديها نظراً لمكانها وقربها من الناس، إلا أن هذا المعرض زاره الكثير من محبي الثقافة والأدب والكتب، ونشاط مقاهيه الثقافية تعطيه أهمية أخرى ونكهة مختلفة تضفي عليه نوعاً من الحميمية والتقارب بين المبدع والمتلقي، ولذلك فإن استمرارية مثل هذه المعارض أراه ضرورة ثقافية واجتماعية وإنسانية، وعرساً آخر من أعراس الكتاب الجميلة التي ننتظرها بين فترة وأخرى، ليؤكد الكتاب حضوره الفاعل بين الناس، ويبقى في قوة ومنعة أمام متغيرات الحياة التي تكاد، أو تحاول زعزعة مكانة القراءة والاستغناء عنها بمحركات البحث والأدوات الذكية والفضاء المفتوح الذي قد يشوه صورته ما يملأ فراغه من معلومات مغلوطة في كثير من الأحيان، وبالتالي فقد تكون معول هدم للثقافة وتمحو بذلك أثر من تعب وألّف واجتهد في الرصد والمتابعة والبحث المعرفي من أجل أن يقدم عملاً إنسانياً يخدم المجتمعات في كل زمان ومكان .

[email protected]
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"