إنجاز تونسي في مكافحة التمييز

03:51 صباحا
قراءة 3 دقائق
محمود الريماوي

في غمرة الصراعات الحزبية والتجاذبات السياسية والمشاحنات الإعلامية التي ما فتئت تشهدها تونس، وفي أجواء الأزمة الاقتصادية الضاغطة التي يعيشها هذا البلد منذ سنوات، والتي أدّت إلى إضعاف العملة الوطنية بصورة مطّردة، فقد تمكن التونسيون رغم هذه التحديات من تحقيق إنجاز على جانب من الأهمية، وإن كان لا يتعلق بالجانب الاقتصادي أو السياسي، ويتمثل هذا الإنجاز بمصادقة البرلمان التونسي يوم 9 أكتوبر الجاري على قانون يجرّم التمييز العنصري، وهو مطلب طالما نادى به حقوقيون وناشطون في المجتمع المدني.
وقد حظي مشروع القانون بعد مضي نحو سنة على عرضه على المجلس بمصادقة كاسحة، ولم يعترض عليه سوى نائب واحد فيما تحفّظ خمسة نواب، بينما بلغ عدد المؤيدين 125 نائباً. ولعلها من المرات النادرة التي يشهد فيها برلمان تونس هذا القدر من شبه الإجماع، على مشروع قانون معروض عليه.
ويُعرّف القانون الجديد التمييز العنصري بأنه «كل تفرقة أو استثناء أو تقييد أو تفضيل يقوم على أساس العرق أو اللون أو النسب أو غيره من أشكال التمييز.. الذي من شأنه أن ينتج عنه تعطيل أو عرقلة أو حرمان من التمتع بالحقوق والحريات الأساسية أو ممارستها على قدم المساواة أو أن ينتج عنه تحميل واجبات وأعباء إضافية».
ويتضمّن القانون عقوبات مالية وأخرى بالسجن على مرتكبي التمييز، وتتضاعف العقوبة في حالة ما إذا كان المستهدف طفلاً، أو شخصاً يتعرض للاستضعاف.
ومن المثير للانتباه أن تونس لا تنوء تحت ظاهرة التمييز بصورة واسعة، فيما تنسب لناشطين بارزين تقديرات وانطباعات مختلفة كالناشطة سعدية بن مصباح التي تقرّ بوجود هذه الظاهرة، «ويمكن معاينتها في وسائل النقل العمومية والمدارس وغيرها من الفضاءات العامة والخاصة». فيما أشارت عضو مجلس نواب الشعب، جميلة دبش الكسيكسي في تصريحات صحفية، إلى أن القانون «يعالج العادات والتقاليد البالية، ويصبّ في مصلحة كل الفئات المميزة عنصرياً في تونس سواء أصحاب البشرة السوداء أو الأقليات الدينية وغيرها».
وأياً كان أمر التقديرات الواقعية، فإنه من باب الحصافة، اتخاذ إجراءات وقائية ضد أية ظاهرة سلبية، دونما انتظار لتفشّيها، أو بلوغها درجة الخطر، علاوة على أهمية وضع التشريعات المناسبة التي تشكل الوعاء للقوانين المتطورة.
ويرجع الفضل في إقرار هذا القانون المتقدم إلى حيوية المجتمع المدني الناشط في هذا البلد منذ سبعينات القرن الماضي، وإلى المكانة التي تحتلها المرأة في التشريعات، وإلى التصدّي الرسمي والاجتماعي العام لظاهرة التطرف والإرهاب، التي تم تطويقها والحد منها بصورة ملموسة، ولم تترك كبير أثر في المجتمع التونسي، بالإضافة إلى مفاعيل الشراكة التونسية مع الاتحاد الأوروبي.
ومن المعلوم أن أغلبية الدساتير العربية والإسلامية تنص بصورة أو بأخرى على نبذ التمييز العنصري، لكن هذه النصوص الدستورية المهمة، تفتقر إلى قوانين مصاحبة لها، تتيح تطبيق مضامينها على
أرض الواقع. من هنا تأتي أهمية إصدار هذا القانون الذي يعزز المبادئ الدستورية ويضفي عليها صفة القانون الواجب التطبيق. ولو كانت مثل هذه القوانين ذات وجود في بلدان ومجتمعات عدة، لحالت دون نشوب نزاعات طاحنة وصراعات مدمرة.
إن من شأن هذا التطور أن يكرّس التوجّه نحو استكمال بناء الدولة المدنية، وتحصين مرتكزاتها، ونشر ثقافة حقوق الإنسان على أوسع نطاق في المجتمع، والإعلاء من شأن قيم العدالة والمساواة، وقطع الطريق على أية منازعات اجتماعية تستغل الاختلافات على أساس اللون والدين والعرق والجنس، وسوى ذلك من فروق طبيعية بين البشر لا تشكل بحد ذاتها تمايزاً بينهم، لكنها قابلة للاستغلال السلبي. وشهدت وتشهد مجتمعات عربية العديد من النزاعات على هذا الأساس، وذلك مع افتقاد قوانين رادعة، ولغياب ثقافة حقوق الإنسان على مستويات مختلفة، رغم التغني بها في أغلب الأحيان!.
ولا شك أن مكافحة التمييز العنصري تتطلب منظومة متكاملة، من النصوص التشريعية والإجراءات القانونية، ومن مناهج التعليم في المستويات المختلفة، ومواثيق عمل ومبادئ مرشدة لوسائل الإعلام، بما فيها الوسائل الإلكترونية الحديثة، إضافة إلى الدور الذي تلعبه الآداب والفنون المرئية والسمعية، في إشاعة قيم التسامح وإرساء السلام الاجتماعي، على قاعدة الاحترام المتبادل بين الأفراد والجماعات، والقبول بالتعدد الاجتماعي والتنوع الثقافي كمصدر لغنى الحياة العامة وتطورها.
وبإنجازهم هذه الخطوة النوعية، يستحق الإخوة التونسيون تحيّة تقدير.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"