السيادة الترابية في إفريقيا

04:32 صباحا
قراءة 4 دقائق
د.إدريس لكريني

ينطوي تحديد مفهوم السيادة على دلالات قانونية وفلسفية؛ وهو يعود في أصوله إلى القرن الخامس عشر، حيث جاء لدعم وجود الدولة الحديثة في أوروبا. والسيادة ركن أساسي ضمن المرتكزات التي تقوم عليها الدول، وهي تحيل إلى تلك السلطة التي تباشرها الدولة على أراضيها ومواطنيها والتي لا تحدّها أية سلطة داخلية، أو خارجية أخرى.
وتعود السيادة أساساً إلى مبدأ مهم يحكم العلاقات بين الدول، وهو ذلك القاضي بأن الأشخاص القانونية تتمتع بالسلطات المقرّرة لها وفقاً لقواعد القانون الدولي على الأقاليم والأشياء والأشخاص الخاضعة لها.
ويشكّل مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، ركيزة أساسية لحماية شخصية وسيادة الدول من كل تهديد، أو اعتداء خارجيين، سواء تعلق الأمر بتدخل ثقافي، أو سياسي، أو اقتصادي، أو عسكري.. وهو من ضمن المبادئ الأساسية للقانون الدولي، حيث نصّ الميثاق الأممي في الفقرة السابعة من المادة الثانية صراحة على عدم جواز التدّخل في الشؤون التي تعد من صميم السلطان الداخلي للدول، ونظراً لأهمية هذا المبدأ فقد تمّ تضمينه أيضاً داخل مختلف مواثيق المنظمات الدولية والإقليمية.
لقد عانت دول القارّة الإفريقية على امتداد عدّة عقود ويلات الاستعمار، وقادت العديد من نخبها معارك ضارية لنيل الحرية في مواجهة القوى الغربية المحتلة، ما أثمر استقلال أكثر من خمسين دولة، استطاعت في العقود الأخيرة أن تراكم تجارب اقتصادية وسياسية واعدة، مكّنتها من القطع مع الصورة النمطية التي طالما ربطتها بالتخلّف، والحروب، والمجاعات، والانقلابات.. ما كان له الفضل في تصاعد نسب النمّو، وبروز تحسّن ملحوظ في بيئة الاستثمار داخل القارة.
وتختزن إفريقيا خيرات طبيعية مهمة، وإمكانات بشرية واقتصادية مذهلة، جعلتها محطّ تهافت دولي وإقليمي واسع، ما أصبح يطرح إشكالات قانونية وميدانية مختلفة، تتعلق بالتدخل بخلفيات ومبررات متباينة، لا تخلو من تحايل.
وعلاوة على ذلك، ثمّة تهديدات أصبحت تطرحها الكثير من المخاطر العابرة للحدود بالنسبة لدول هذه القارة في ارتباطها بظاهرة الإرهاب، والهجرة السّرية والتهريب.. إضافة إلى ما باتت تشكّله بعض القوى المتشدّدة من توجهات انفصالية، مستغلة في ذلك التنوع والغنى الثقافي الّلذين يطبعان المجتمعات الإفريقية، بشكل منحرف..
ومما زاد في الطين بلّة، ذلك الالتباس الذي أصبح يطبع تناول مبدأ «حق تقرير المصير» بعدم التمييز بين جوانبه السياسية، والقانونية، والاجتماعية، والإشكالات الكبرى التي بات يطرحها هذا الخلط على مستوى تهديد سيادة ووحدة الدول. فقد بدا أن هناك مبالغة في التعامل مع هذا المبدأ، حيث ساد الاعتقاد بأن من حقّ أي جماعة تتقاسم لغة، أو ثقافة، أو فضاء جغرافياً واحداً المطالبة بالاستقلال استناداً إلى هذا المبدأ.
ونظراً لأن القانون الدولي يدعم وحدة الدول، ويضمن سيادتها، بخاصة أن المبالغة والانحراف في توظيف هذا المبدأ من شأنه الزجّ بالسلم والأمن الدوليين في حالات من الاضطراب وعدم الاستقرار، وبخاصة أن الكثير من دول العالم تحتضن مجموعات إثنية وعرقية ودينية وثقافية مختلفة، تتعايش داخل المجتمع، فقد رفض مجلس الأمن محاولة الانفصال في إقليم «كاتانجا» الكونغولي الغني بثرواته المعدنية خلال سنوات الستينات من القرن الماضي، كما أكّد في عدد من المناسبات على ضرورة احترام سيادة الدول ووحدتها، وهو ما سارت عليه توصيات الجمعية العامة، وقرارات العديد من المنظمات الإقليمية، كالاتحاد الإفريقي، وجامعة الدول العربية، والمؤتمر الإسلامي..
ومعلوم أن الانفصال هو صورة من مظاهر متعددة لممارسة حق تقرير المصير، لأن هناك سبلاً أخرى ترتكز إلى القانون الدولي بإمكانها تحقيق أهداف وغايات هذا المبدأ، كما هو الأمر بنظام الحكم الذاتي الذي اعتمدته الكثير من الدول المتقدمة، كإسبانيا، وألمانيا، في تدبير تنوعها بصورة ديمقراطية.
كل هذه الاعتبارات والعوامل في أبعادها الداخلية، أو الخارجية، أعادت موضوع حماية السيادة الترابية إلى واجهة النقاش في السياق الإفريقي، بالنظر إلى الإشكالات والمخاطر الكبرى التي باتت تطرحها العوامل السابق ذكرها بالنسبة لمستقبل هذه القارة، ولتماسكها.
وتبرز الممارسات الدولية أن تهديد وخرق سيادة الدول، شكّل دائماً بوابة للأزمات والحروب التي زجت بعدد من مناطق العالم في متاهات من الصراع .. والواقع أن تعزيز حماية السيادة الترابية في إفريقيا، والحرص على احترامها، هو مدخل أساسي لدعم التنمية وتعزيز الديمقراطية، بما يسهم في ترسيخ الاستقرار ويوفّر شروط السلم والأمن الدوليين إقليمياً وعالمياً.
ولا شك في أن التحولات الدولية الكبرى التي فرضتها العولمة في أبعادها ومظاهرها المختلفة، أسهمت بشكل ملحوظ في تلطيف مفهوم السيادة، في عالم متشابك ومنفتح، كما فرضت هذه المتغيرات تحديات ميدانية كبرى أمام سيادة الدّول ،وبخاصة الضعيفة منها، وهو ما أصبح يطرح أهمية البحث عن سبل أكثر نجاعة في سبيل حماية وتعزيز هذه الأخيرة، بما يحفظ كيان الدول، ويحصنها ضد المؤامرات، والتدخلات الخارجية المختلفة.
وتؤكّد التجارب الدولية الرائدة أن تحصين الذات في إطار تكتّلات قوية مبنية على التعاون والتنسيق وتبادل المصالح، هو رهان رابح لحماية السيادة الترابية بأسلوب رشيد، يسمح بمواجهة كل التدخّلات التي تتهدّد عدداً من الدول في المنطقة العربية وإفريقيا.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​باحث أكاديمي من المغرب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"