دروس الجائحة ونتائجها

02:10 صباحا
قراءة 3 دقائق

عاصم عبد الخالق

الدرس الأهم الذي لقّنه وباء كورونا للعالم، لاسيما للقادة السياسيين في الغرب، هو أن العلماء والأطباء أكثر فائدة وقيمة للبشرية من الجنرالات والجيوش، وأن الإنسانية تحتاج إلى البحث العلمي الذي ينتج الأدوية وينقذ حياة الملايين، أكثر من احتياجها لترسانات الأسلحة النووية التي تهدد الحياة على الأرض بالفناء. من الآن، سيقرر العقلاء مضاعفة الميزانيات الضامرة للبحث العلمي، وهي النتيجة الأهم والإيجابية للجائحة التي تعصف بالعالم.
الوجه الآخر لهذه النتيجة هو تراجع سطوة مجتمع الصناعات العسكرية الذي يتحكم في قرارات الدول الكبرى خاصة الولايات المتحدة ويُملي على قادتها سياساتهم، بما فيها تفجير الحروب وإشعال الأزمات لبيع مزيد من الأسلحة. لن تنخدع شعوب الغرب بعد الآن، بدعم معارك وهمية وسباقات تسلح تستنزف مواردها، بينما تتربص بها أخطار حقيقية مثل الأوبئة.
النتائج والتأثيرات المتوقعة للأزمة الحالية كثيرة. وقد اجتهد المئات من الخبراء والمعلقين في رصدها، ويتفق معظمهم على أن العالم بعد وباء كورونا سيختلف عما كان قبله، وستكون العولمة بشكلها الحالي أكبر ضحايا الفيروس.
ضربت الأزمة مبدأ الاعتماد الاقتصادي المتبادل، وهو جوهر العولمة، في مقتل بعد أن فرضت الدول عزلة إجبارية على نفسها، مكتشفة أن أمنها القومي كان يستدعي قدراً أكبر من الاكتفاء الذاتي، وأن توفير السلع والخدمات الحيوية بصورة سريعة ليس ضرورياً لصحة الاقتصاد فحسب؛ بل لحياة المواطنين نفسها.
لن يتم بعد ذلك الاعتماد الكامل على سلاسل الإمدادات والتوريدات الضخمة، وهو ما يجعل الصين المتضرر الأكبر باعتبارها مصنع العالم، والمورد الرئيسي لمستلزمات الإنتاج والسلع الوسيطة اللازمة للصناعات الغربية. ومن هنا تتباين التوقعات بشأن المستقبل الصناعي والاقتصادي للصين، وهل سيظل العالم معتمداً عليها، أم يسعى لمزيد من الاستقلال والتباعد عنها؟
يعتقد البعض أن الاحتمال الثاني هو الأرجح، وأن الصين ستفقد ميزاتها التنافسية وجاذبيتها التي لا تقاوم للمستثمرين الغربيين الذين ستُجبرهم دولهم على تجنب وضع البيض كله في سلة واحدة، ومن ثم إعادة توزيع الاستثمارات في العالم أو نقلها إلى موطنها الغربي.
وفي المقابل، يرى فريق آخر أن الأزمة ستخرج الصين أقوى سياسياً واقتصادياً مما كانت، وأن استغناء الغرب عنها لن يحدث سريعاً، حتى مع إدراكه لضرورة تقليص الاعتماد عليها. كما أن نجاحها في محاصرة الوباء بإجراءات صارمة وبفاعلية أفضل من أوروبا، رفع أسهمها. يضاف إلى ذلك أنها أظهرت إحساساً حقيقياً بالمسؤولية الجماعية، وأدت دورها كقوة عالمية لمساعدة دول أوروبا وآسيا، بينما فشلت أمريكا في القيام بهذا الدور. ولم يكن غريباً أن يخرج من يقول إن العولمة في صورتها الجديدة ستتمحور حول الصين وليس أمريكا، كما هو الحال اليوم.
ومن المؤكد أن الأداء بالغ السوء لإدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، هو السبب في هذا التطور الذي ينذر بانحسار القيادة العالمية لبلاده لصالح الصين. هناك أحداث تكون فارقة في مصير العالم والأمم. وتعتقد مجلة «فورين افييرز»، أن اللحظة الراهنة واحدة من نقاط التحول التاريخية، وتشبه إلى حد كبير أزمة حرب السويس 1956 التي كانت إيذاناً بغروب شمس الإمبراطورية البريطانية، وانتهاء عصرها كقوة عظمى. وستكون أزمة كورونا هي لحظة السويس الأمريكية.
وإلى جانب الخسائر الاقتصادية الهائلة، هناك حزمة من التطورات المزعجة المتوقعة مثل ارتفاع المد القومي والشعبوي في بلدان العالم وخاصة الغرب، وإحكام قبضة النظم السلطوية التي ستجد في القيود الجديدة، فرصة ذهبية لتبرير خنق شعوبها حتى بعد انتهاء الأزمة. ونتيجة لتضرر اقتصادياتها ستتعرض بعض الدول لأزمات داخلية تعصف باستقرارها، وربما باستقرار جيرانها أيضاً. إنه عالم ما بعد كورونا، وهو عالم جديد أقل انفتاحاً وتعاوناً وحرية.. هي الفوضى تطرق الأبواب ولا سبيل إلى ردها.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"