بين الفاجعة والمحاكمة

00:16 صباحا
قراءة 3 دقائق

محمود حسونة

يحدد حاضر الدول ملامح مستقبلها، ومن يقرأ الحاضر جيداً يمكنه أن يتوقع المستقبل، دول صغيرة ستكبر ودول نامية ستنهض بفضل نهجها السياسي المعتدل ونموها الاقتصادي المتصاعد وطموحها العلمي غير المحدود وإنجازاتها المتعاظمة ومشاريعها الطموحة، ودول كبيرة ستصغر- ليس جغرافياً- ودول متقدمة ستتراجع وسيقل تأثيرها العالمي، وذلك بفضل الأزمات التي تصنعها والانقسامات الاجتماعية التي تشهدها والخلل الاقتصادي الذي تعانيه. 

 وبعيداً عن الحرائق التي أشعلتها الولايات المتحدة حول العالم، وعن نهجها السياسي القائم على التفرد والهيمنة والتهام القرار الدولي، فقد شهدت الدولة الأعظم خلال الأيام الماضية مجموعة من الأحداث الداخلية التي تساعد في رسم ملامحها المستقبلية، ومن الأحداث الكثيرة التي تحدث في الداخل الأمريكي نستقرئ حدثين يتعلق أحدهما بالرئيس الحالي جو بايدن والثاني بالرئيس السابق دونالد ترامب. 

 حادث إطلاق تلميذة النار بشكل عشوائي في مدرسة ابتدائية بناشفيل بولاية تينيسي وقتلها ستة أشخاص بينهم ثلاثة أطفال، ليس الأول ولن يكون الأخير في دولة تبيح حمل واستخدام السلاح لأي كان، ولأنه من الحوادث التي تهدد البنية الاجتماعية للمجتمع، فمن الطبيعي أن يلقى اهتماماً من رأس الدولة، ورغم أن الحادث مفجع فقد بدأ الرئيس بايدن تعليقه عنه بكلمات لم يسترع انتباه الناس إن كانت مزحة أو هفوة أو زلة لسان ، حيث قال «اسمي جو بايدن. أنا زوج الدكتورة جيل بايدن»، وأضاف: «أنا آكل آيس كريم برقائق الشوكولاتة. جئت لأنني سمعت بوجود آيس كريم برقائق الشوكولاتة.. بالمناسبة، لدي ثلاجة كاملة ممتلئة بالآيس كريم في الطابق العلوي». 

 كلمات غريبة على الموقف، عجيبة في المعنى، معدومة المضمون والقيمة، تعكس أن ما يشغل بال الرئيس هو ما يحب أن يأكله لا المصاب الكبير الذي ذهب ضحيته أبرياء بينهم أطفال بسبب السلاح المنفلت. ويبدو أن الرئيس بعد أن تغزّل بالآيس كريم وعرّف عن نفسه وعن زوجته، عاد ليتحدث عن الحادثة ويصف إطلاق النار بأنه «مفجع، أسوأ كابوس للأسرة».

 أجل، الحادث كابوس ضمن سلسلة من الكوابيس التي تهدد حياة الصغار والكبار من التلاميذ الذين يذهبون لتحصيل العلم ويعودون جثثاً. 

 المجتمع تمزق، رئيسه الحالي يشغله الآيس كريم أكثر مما يشغله القتل المتجول، وهو الكلام الذي يستقبله البعض ضاحكاً والبعض الآخر ساخراً ويستقبله البعض الثالث متشائماً من المستقبل .

 وعلى الجانب الآخر، فإن الرئيس السابق تتم محاكمته بلائحة تتضمن 34 تهمة، ليكون أول رئيس أمريكي يتعرض للتوقيف حتى ولو لساعات. 

 دونالد ترامب أقر بأن أمريكا تتراجع، ولكنه لم يقر بأنه أحد أسباب تراجعها، شأنه شأن خلفه وعدوه اللدود جو بايدن، فكلاهما جنح للتشدد السياسي، وهو مافعله سابقون عليهم في البيت الأبيض، وتطرف ترامب السياسي هو الذي جاء ببايدن رئيساً، وتطرف بايدن لعب دوراً في وصول ترامب إلى قاعة المحكمة وقد يكون هو السبب في عودته إلى البيت الأبيض مرة أخرى. 

 محاكمة ترامب لن تقوده إلى السجن، والدولة التي صفحت عن ريتشارد نيكسون رغم ارتكابه فضيحة «ووتر غيت»، الأكبر في التاريخ الأمريكي، والتي تغاضت عن ارتباط هانتر بايدن ابن الرئيس الحالي بقضايا فساد ضريبية وبقضايا فساد كبرى في أوكرانيا، والتي تغاضت عن وثائق ترامب السرية وعن تشجيعه اقتحام البلطجية لمبنى الكابيتول، ستتغاضى في النهاية عن شراء ترامب صمت امرأة أقام معها علاقة خلال انتخابات 2016، ولكنها ستكرس الانقسام وستزيد من حدة الحقد والكراهية بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري، بعد أن كشفت أمام العالم أن مستقبل هكذا دولة لن يكون مثل حاضرها، وأن خلخلة مكانة أمريكا كقوة عظمى في العالم ليست بفعل أعدائها ولا بفعل سياستها الخارجية فقط ولكن بفعل أزماتها الداخلية وأسلوب تهاون رؤسائها مع هذه الأزمات.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/5f5ymx9y

عن الكاتب

كاتب صحفي، بدأ مسيرته المهنية عام 1983 في صحيفة الأهرام المصرية، وساهم انطلاقة إصداراتها. استطاع أن يترك بصمته في الصحافة الإماراتية حيث عمل في جريدة الاتحاد، ومن ثم في جريدة الخليج عام 2002، وفي 2014 تم تعيينه مديراً لتحرير. ليقرر العودة إلى بيته الأول " الأهرام" عام 2019

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"