مواجهة موضوع العلوم المهمل

03:10 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. علي محمد فخرو

عبر القرنين الماضيين، طرح العديد من المفكرين العرب موضوع الإصلاح والتجديد كمدخل لخروج أمتهم من حقبة التخلّف الحضاري التي وصلت إليها . لقد كانت الحصيلة تقدماً نسبياً، ولكن ملموساً، في الأفكار والتنظيمات والإنجازات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
لكن بقي مجال واحد جامداً في تخلّفه ومّهملاً إلى حدود الفجيعة، وهو مجال العلم، سواء على المستويين المعرفي والتطبيقي، أو بالنسبة للأفراد والمجتمعات. يكفي أن يتابع الإنسان البرامج التلفزيونية والإذاعية العربية، وأعداد الكتب العربية الصادرة سنوياً في مجال العلوم حتى يدرك مدى الإهمال الذي أصاب هذا المجال في الحياة العربية.
وأيضاً يكفي أن يطلّع الإنسان على المستويات المتدنّية للطلبة العرب في امتحانات ومسابقات العلوم والرياضيات الدولية حتى يدرك المكانة المتواضعة لمناهج وتعليم العلوم والرياضيات في مدارس وجامعات الوطن العربي. تلك الجهود المتواضعة في نشر الثقافة العلمية، وفي ندرة وفقر مراكز البحوث العلمية والتكنولوجية هي أحد أهم أسباب العجز العربي أمام العلم الحداثي.
ذلك العجز يبدو جلياً في غياب المنظومة المتكاملة المطلوبة، لترسيخ العلوم وتطبيقاتها في المجال الاقتصادي، على سبيل المثال، حيث الحاجة لحلقات مترابطة من تعليم علمي جيّد في المدارس والجامعات، ومن مراكز بحوث متعمقة مبدعة منتجة للمعرفة، ومن شركات تسهم في التمويل من جهة، وتقلب نتاجات البحوث إلى إنتاج مادي ومعنوي يبني اقتصاداً تنموياً مستمراً من جهة ثانية.
يرافق ذلك شح معيب في مقدار ما تصرفه الدولة العربية من ناتج الدخل الوطني على الأبحاث ، وهو مقدار ضئيل يضع العرب في آخر قائمة الدول في مجال البحوث.
كل ذلك أدى إلى تهميش أهمية إنتاج العلوم وتطبيقاتها في عقل ووجدان الفرد العربي، وهو الأمر الذي يسهم في جعله يقبع على هوامش العصر الذي نعيش، عصر الإنجازات المبهرة في حقلي العلوم والتكنولوجيا بامتياز.
وبالطبع فعندما ينعدم تجذير وترسيخ العلم ، فكراً وإدراكاً وتطبيقاً، في العقل والوجدان تصبح النشاطات الحياتية اليومية، على مستويات العائلة والعمل والعلاقات مع الآخرين والممارسة الدينية وغيرها، خاضعة للانفعالات والأساطير والأوهام، وبعيدة كل البعد عن استعمال المنطق والموضوعية وكل متطلبات العقلانية.
ومع الأسف، فإن تلك العلاقة الملتبسة مع العلوم الطبيعية البحتة والرياضية لا يمكن إلا أن تعكس نفسها على التعامل مع العلوم الاجتماعية والإنسانية. هنا تتشابك هذه العلوم مع تاريخ تنخره ألف علة وعلة، ومع فقه ديني ما زالت تهيمن عليه اجتهادات وتصورات أزمنة مختلفة عن أزمنتنا، ومع مسلّمات اجتماعية ثقافية قبليّة تنتج سلوكيات غير منطقية وغير متوازنة، ومع مشاعر بالدونية تقف مبهورة بالعلم وحضارة العلم، ولكن عاجزة عن الانخراط في إنتاجهما وفي تجديدهما.
فلا غرابة ، إذن في أن يكون إنتاجنا في ساحات الفلسفة وشتى أشكال العلوم الاجتماعية والإنسانية وفي الأدب والفنون محدوداً أو تقليداً للغير. ولقد قادنا ذلك الفقر في ذلك الإنتاج إلى جعل أهم قضية في حياتنا الحالية، قضية التحديث والحداثة والعصرنة، قضية خلافات وصراعات ، وقضية قبول ورفض. والسبب هو أن البعض يريدها حداثة غربية بحتة، بينما المنطق يفرض أن تكون حداثتنا حداثة عربية ذاتية تنطلق من واقعنا ، ومن نظرتنا الكلية للعالم، وتراعي ثقافتنا وآمالنا المستقبلية. وبالطبع فإن ذلك لا يجب على الإطلاق أن يتعارض مع الأخذ من والتفاعل مع حداثات الآخرين ، سواء أكانت غربية أم كانت شرقية.
نحن نعلم أن ما نطالب به يحتاج إلى خروجنا أولاً من الجحيم الذي تعيشه المجتمعات العربية حالياً، وأن إطفاء حرائق ذلك الجحيم له الأولوية القصوى. كما ندرك أيضاً أن هناك متطلبات مجتمعية، من مثل وجود نظام ديمقراطي معقول يكفل احترام الحريات المدنية والأكاديمية والبحثية ، ومن مثل ضبط ضروري للشطط الديني المتخلف الذي مارسه البعض عبر القرون وتنقيح للولاءات الفرعية القبلية والمذهبية البعيدة كل البعد عن المنطق والعلم، لكننا نعتقد أن هناك أدواراً للحكومات والمؤسسات التربوية ومراكز البحوث والمفكرين والمثقفين يمكن أن تسهم في وضع المجتمعات العربية على العديد من الدروب التي ستؤدي إلى التوجه نحو حل معضلة المسألة التي طرحها الكثيرون ونطرحها في مقالنا هذا.
فتح أبواب قلاع العلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية والإنسانية أمام العرب أمر معقد ، لكنه غير مستحيل ، خصوصاً في عالمنا المتشابك والمتفاعل والمنفتح على بعضه البعض بصور لا حدود لها.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

شغل منصب وزير الصحة ووزير التربية والتعليم سابقاً في البحرين. متخصص في كتابة مقالات في شؤون الصحة والتربية والسياسة والثقافة. وترأس في بداية الألفين مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث. كما أنه عضو لعدد من المنظمات والمؤسسات الفكرية العربية من بينها جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"