خلفيات الانفتاح الأوروبي على الصين

00:51 صباحا
قراءة 3 دقائق

د.إدريس لكريني

بعد مرور أكثر من عام على الحرب الروسية الجارية في أوكرانيا، أصبحت الدول الأوروبية متأكدة أنها الأكثر تضرراً من تبعات هذه الحرب التي خيمت بتداعياتها المختلفة على العالم بأسره.

فقد تأثرت اقتصادياتها بشكل سلبي ملحوظ، بفعل العقوبات التي فرضتها على روسيا، حيث ارتفعت أسعار الطاقة والمواد الغذائية؛ جراء الخلل الحاصل بين مستويات الطلب والعرض في هذا الصدد، وتصاعد نسبة نزوح الأوكرانيين نحو البلدان الأوروبية. كما أن هذه الحرب دفعت الكثير من دول الاتحاد الأوروبي إلى زيادة ميزانية النفقات العسكرية، وأسهمت أيضاً في عرقلة الجهود المبذولة لأجل التعافي من التبعات الاقتصادية والاجتماعية التي خلفتها جائحة كورونا، وهو ما عمّق الأوضاع أكثر، وأسهم في عرقلة النمو في عدد من الدول الأوروبية كبريطانيا وفرنسا وألمانيا. وقد أشارت بعض الإحصاءات إلى أن الدول الأوروبية أنفقت ما يناهز 800 مليار يورو في سياق دعم المواطنين لتجاوز كلفة المعيشة ومعدلات التضخم المرتفعة.

 وأمام التطورات الميدانية لهذه الحرب، تجد الدول الأوروبية نفسها بين مطرقة التوجهات الأمريكية الرامية إلى تشديد العقوبات الاقتصادية والسياسية والعسكرية، لمواصلة الضغط على روسيا لإجبارها على وقف عملياتها من جهة، وبين سندان النتائج العكسية لهذه التدابير؛ التي جعلت صانعي القرار؛ وجهاً لوجه أمام احتجاجات المواطنين التي أصبحت تهدد السلم الاجتماعي في عدد من دول القارة، كما هو الشأن بالنسبة لفرنسا، من جهة أخرى.

 وفي هذا السياق، يطرح السؤال حول ما إذا كانت البلدان الأوروبية قادرة على مواجهة تداعيات الحرب في حال استمرارها، وخاصة أن عدداً منها شهد تصاعداً في الاحتجاجات، كرد فعل على غلاء الأسعار، وتراجع القدرة الشرائية للأفراد، وتزايد نسبة البطالة. وتشير التوقعات الاقتصادية، إلى أن طول أمد هذه الحرب سيكلف الاقتصاد الأوروبي خسائر غير مسبوقة، سواء تعلق الأمر منها بتبعات العقوبات المفروضة على روسيا، أو الدعم الموجه لأوكرانيا، أو فيما يتعلق بإعادة كلفة إعمار ما ستخلفه الحرب في هذا البلد في حال توقفت العمليات العسكرية.  وأمام هذه الأوضاع الضاغطة، بدأ الكثير من القادة الأوروبيين يراهنون على الصين، للقيام بأدوار على مستويين، الأول، يتركز في إرساء مبادرات تسمح بوقف نزيف الحرب، والثاني، يتعلق بعقد شراكات تدعم إنعاش الاقتصاد الأوروبي، الذي تضرر بشكل كبير خلال السنوات الأخيرة بفعل انعكاسات الجائحة، وآثار هذه الحرب.

 وتندرج في هذا الإطار زيارة كل من الرئيس الفرنسي «إيمانويل ماكرون» ورئيسة المفوضية الأوروبية «أورسولا فون دير لاين» إلى بكين، والتي تحيل في جزء كبير منها إلى التخوفات التي أصبحت تبديها الكثير من الأطراف الأوروبية من حجم التقارب الصيني الروسي، وانعكاساته المحتملة على مستقبل الشراكة والتعاون الأوروبي - الصيني في المستقبل.

 وإذا كانت الدول الأوروبية ترى في انفتاحها على الصين مدخلاً مهماً لتخفيف وطأة الأزمات المالية والاقتصادية والاجتماعية المتزايدة، فإن هناك أسئلة ملحّة ترافق هذه التوجهات، حول ما إذا كان الأمر يمثل إقراراً برغبة الدول الأوروبية في إرساء نظام دولي متعدد الأقطاب تلعب فيه الصين دوراً أساسياً، وتجاهلاً للجهود الأمريكية الرامية إلى تضييق الخناق على بكين، أم مجرّد مناورة لوقف نزيف الحرب، وتداعياتها التي كلفت الدول الأوروبية الكثير من الإمكانيات.

 على الرغم من العلاقات الاستراتيجية التي تربط الدول الأوروبية بالولايات المتحدة، وعلى الرغم من الخلافات الأوروبية مع الصين بشأن عدد من القضايا، فإن التطورات الدولية الأخيرة، وما تحيل إليه من تهديدات وتحالفات وتوازنات جديدة، فَرض اعتماد سلوكات على قدر من الواقعية التي تستحضر ضمن مرتكزاتها العقلانية والمصلحة.

 من الواضح أن الصين تربطها علاقات اقتصادية متينة مع عدد من الدول الأوروبية كفرنسا وألمانيا، وهو ما يحيل إلى أن التوجه الأوروبي الأخير يصب باتجاه السعي إلى التخلص من الهيمنة الأمريكية. وفي هذا السياق، يمكن قراءة تصريح الرئيس الفرنسي أخيراً، حين أشار إلى دعمه لسياسة «الصين الواحدة»، ودعا إلى بلورة موقف مستقل عن الولايات المتحدة في التعاطي مع النزاع القائم بين بكين وتايوان.

 وعموماً، تظهر الكثير من الوقائع والمؤشرات أن التوجه الأوروبي نحو الصين لا يتعلق بخيار مرحلي يتحكم فيه هاجس المراهنة على دور بكين في إقناع روسيا بوقف عملياتها العسكرية في أوكرانيا فقط؛ بل بخيار استراتيجي مصلحي أملته القناعة ببداية تشكل نظلم دولي تعددي ستحتل فيه الصين مكانة وازنة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/bdfbyh9r

عن الكاتب

​باحث أكاديمي من المغرب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"