"بورصة" البشر ودولة الملائكة

04:19 صباحا
قراءة 5 دقائق

عندما يتحدث المصريون عن البورصة المالية صعودها وهبوطها وفقاً لما نمر به من أحداث، فإن ذهني يتجه مباشرة إلى بورصة أخرى هي بورصة البشر التي تتأرجح أيضًا صعوداً وهبوطاً وفقاً لما يمر بنا من أحداث، ولقد كتبت منذ عدة شهور مقالاً تحت عنوان بورصة البشر عالجت فيه علاقة المصري بالسلطة، وكيف أن المقعد له بريقٌ فرعوني باهر، حتى يبدو الفرد أحيانًا أضخم من المؤسسة التي يديرها وتلك ظاهرة فريدة تستحق الدراسة والتأمل، ولقد حاولت في الأسابيع الأخيرة أن أتابع الاهتزاز الشديد في بورصة البشر المصرية حيث الصعود السريع للبعض والسقوط المفاجئ للبعض الآخر، واكتشفت أن السلطة دائماً هي العامل المشترك في ذلك الصعود والهبوط، كما أن البورصة البشرية - مثل البورصة المالية - تتعرض لمفاجآت يصعب التنبؤ بها وباهتزازات لا يمكن توقعها .

ولعل تداعيات ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011 هي زلزال عنيف اهتزت له البورصتان المالية والبشرية في وقتٍ واحد، وأترك الأولى للمتخصصين في علم الاقتصاد وإدارة الشركات وتدوير الأوراق المالية وأتجه بالتحليل إلى البورصة الثانية، حيث تهاوت رؤوس الحكام وسقطت عروش السلطة، وانتقل مسؤولون كبار إلى غياهب السجون، وصعد آخرون من الشارع إلى القمة تأكيداً لإرادة الأمة وانصياعاً لمطالب شبابها .

إن ما جرى يذكرني بما قاله مكرم عبيد باشا ذات يوم من أربعينيات القرن الماضي (الحمد لله الذي جعلني على الخزائن وزيراً بعد أن كنت في بطن الأرض أسيراً)، مشيراً بذلك لخروجه من المعتقل إلى مقعد الوزارة إبان صراعه الشهير مع زعيم الوفد مصطفى النحاس باشا، ولقد رأيت الله بعيني في الأسابيع الأخيرة عشرات المرات ورددت مع القرآن الكريم الآية الفلسفية الرائعة (يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء)، وشعرت بالأسى لمسؤولين كانوا يتصورون أنهم قد حازوا الدنيا وجمعوا السلطة والثروة في يدٍ واحدة، بل وغازلوا الآخرة أيضاً وهماً وبهتاناً متصورين أن خداع الله والأمة والشعب في وقتٍ واحد هو أعلى درجات الذكاء البشري لمن يحلقون في سماوات عشق الذات ولا يرون من الدنيا إلا أنفسهم . لقد احتكمت طوال حياتي، رغم وجودي في الإطار العام للنظام السياسي السابق، إلى ما يمليه عليّ ضميري فشيعت جنازة المرشد العام الراحل مأمون الهضيبي، وزرت المستشار المحترم هشام البسطويسي في أوج صدام الدولة مع مواقفه الداعية إلى استقلال القضاء، كما رفضت الذهاب إلى إسرائيل برغم كل الضغوط التي مورست عليّ، واضطررت إلى السفر بعيداً إلى جنيف حتى لا أفعل شيئاً لا أرضاه . تلك كانت قناعاتي في العقود الأخيرة مؤمناً بأن رضاء الإنسان عن ذاته أغلى بكثير من رضاء الغير عنه، لذلك فإنني عند الحديث عن البورصة البشرية أرصد الملاحظات الآتية:

* أولاً: فوجئت بإحدى القنوات الفضائية تذيع لقاء لي هذا الأسبوع (مارس 2011) مع الصحفي الراحل محمود فوزي في برنامجه الشهير (حوار على نار هادئة) وكان ذلك بتاريخ فبراير 2007 أي منذ أكثر من أربع سنوات، والذي أسعدني ورفع رأسي أن الحديث الذي أذيع بغير ترتيبٍ مسبق وعلى غير علم مني، قد بدا متطابقاً تماماً مع مواقفي بعد ثورة 25 يناير، وقد توالت عليّ الاتصالات الهاتفية يومها تحيي رؤيتي المبكرة وثبات مبادئي قبل الثورة بأربع سنوات وبعد اندلاعها أيضاً، ورأوا في ذلك رداً مفحماً على الافتراءات والادعاءات والأكاذيب التي يحاول بها البعض اغتيال التاريخ الحقيقي وتطويعه لحساب تصفيات معروفة الهدف وأجندات مغرضة لا تخفى على أحد، حتى أن أحد خصومي تناولني بأسلوبٍ جارحٍ منذ أيام متجاوزًا حدود انتخابات 2005 ليطعن في قدراتي أمام منصبٍ قومي إقليمي مطروح على الساحة! لقد أردت أن أشير إلى ذلك لأؤكد أننا إذا لم نكن ملائكة نعيش في يوتوبيا دانتي، إلا أننا لسنا شياطين نعيش في جحيم الشر .

* ثانياً: نعترف أن مشكلات جديدة قد نجمت عن تداعيات الزلزال السياسي المروِّع الذي هز أركان بعض الدول العربية، فالتطورات بطبيعتها قد تنهي مشكلات معينة ولكنها تأتينا بنوع جديد من المشكلات، فلكل زلزال توابعه ولا شك أن انهيار بعض المؤسسات وتهاوي نظمها الإدارية والدخول في حالة من الفوضى الوقتية، هي أمور طبيعية شهدتها نظم كثيرة في فترات التحول الحاد من نظامٍ إلى نظام، ولعلنا نتذكر الآن نموذج بعض دول أوروبا الشرقية عند سقوط الستار الحديدي وانهيار النظام الشيوعي مع نهاية ثمانينيات القرن الماضي، وكيف انهارت مؤسساتها وانقسمت شعوبها بين موالين للنظام القديم ومبشرين بالنظام الجديد، ونحن ندرك كم من الوقت استغرق الصراع في هذا السياق، لذلك فإننا لا نندهش أبداً مما تعانيه بعض الدول في هذه المرحلة ومنها مصر، حيث تسود عملية واسعة لتصفية حسابات، كذلك فإن الأمر لا يخلو من ادعاء بطولات في جو يختلط فيه الحابل بالنابل، حتى لم نعد ندرك جيداً ألوان الطيف السياسي بالوضوح المطلوب، فالثورة عملية انتقال نوعي ليس بالضرورة أن يستفيد منها من بدأها، بل قد يقطف ثمارها من لم يشاركوا فيها وحتى لم يتحمسوا لها .

* ثالثاً: إن ما رأيناه حتى الآن في ساحات الثورة المصرية إنما هو تعبير عن فئات من المجتمع وشرائح منه ليست بالضرورة هي الأشد فقراً أو الأكثر عدداً، فنحن أمام احتجاجات موظفين والمطالب الفئوية، ولكننا لم نشهد بعد خروج ملايين الفقراء في زحف محتمل من العشوائيات ليدقوا أبواب المجتمع بدافع الحاجة والفقر، واستثمارًا لأجواء الفوضى الضاربة بجذورها في بعض المناطق على نحو يعود بنا إلى الوراء . ولعل مقدمات التوتر الطائفي هي إنذار مبكر في هذا السياق، لذلك فإننا لا نتصور أن الثورة قد انتهت بل نظن فقط أن الفصل الأول منها قد بدأ يكتمل ولكن فصولاً أخرى لم تبدأ بعد . إنني أحذر وبقلق لا أخفيه، من الموجة الثالثة للثورة المصرية ما لم نتدارك الأمر ونتمكن من تقديم بدائل سياسية للواقع الحالي، حتى نزرع الأمل لدى طبقات محرومة وقوى اجتماعية متعطشة للتغيير، خصوصًا إذا كنا نواجه شبه انهيار إداري في بعض الوزارات والمؤسسات في غيبة الأمن المطعون في كبريائه على النحو الذي شعرنا به جميعاً .

* رابعاً: لا أظن أننا مجتمع من الملائكة أو جزء من المدينة الفاضلة، فنحن بشر نأكل الطعام ونمشي في الأسواق، ونحب ونكره ونعيش ونموت، فينا الخير والشر معاً، فلتكن أحكامنا عادلة ونظراتنا موضوعية حتى ندرك بوضوح أن دوافع الثورة الشعبية المصرية تكمن أساساً في غياب العدل الاجتماعي، إلى جانب تهميش معظم قطاعات المجتمع مع شيوع الفساد وتدني مستوى معيشة معظم المصريين، لذلك فإننا ندعو إلى التفكير بطريقة إيجابية ترفض الماضي وتتطلع إلى المستقبل، تستمد من الحاضر رؤية غدٍ أفضل لنا ولأجيالٍ لا تزال في ضمير الغيب .

. . هذه رؤيتنا وهي ليست نظرة ملائكية في عالم يوجد فيه شياطين أيضاً، ولكنها محاولة لتتبع بورصة البشر والتأمل في ما حدث، والتطلع إلى ما هو قادم .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"