على هامش ما يحدث في السودان

00:25 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. علي محمد فخرو

كان من المفروض أن أستمر في مناقشة ظاهرة وباء الوحدة النفسية التي تجتاح العالم لولا انفجار الأحداث في القطر السوداني الشقيق بصورة مأساوية خطرة تستدعي التذكير مجدداً بإحدى إشكاليات الحياة السياسية المدنية العربية الكبرى.  سنحيل إلى أمثلة في عدة ساحات عربية لإبراز ما فعلته وتفعله تلك الإشكالية.

ففي السودان نجح حراك جماهيري هائل، بقيادة مجموعة من الأحزاب والنقابات ومؤسسات مدنية متعددة أخرى، في الإطاحة بنظام حكم سابق، تحت شعار واضح صريح ينادي بعودة قاطعة غير متلاعب بها لنظام حكم مدني ديمقراطي متوازن وعادل.

 وكان من المفروض أن تكوّن المجموعات والشخصيات التي قادت ذلك الحراك المبهر إلى النجاح قيادة تنسيقية تضامنية واحدة تعمل على نقل المجتمع السوداني، عبر فترة انتقال متفق على كل تفاصيلها وتحت شعارات أهداف لا تتناقض مع روح وتطلعات الحراكات الجماهيرية، إلى بر الأمان الديمقراطي الدائم.

 لكن ذلك لم يتم بصورة كفؤة ثابتة صلبة، إذ رافقته خلافات ومماحكات وانقسامات، ما أدى إلى إضاعة الوقت، ودخول الخارج في اللعبة، وعدم الاتفاق على خطوات انتقالية لا تقبل التلاعب بها أو تغييرها.

 كان من المفروض أن توجد قيادة مدنية تنسيقية متضامنة تمثل الجماهير التي ثارت وضحّت يحسب لوجودها وثقلها وتماسكها وقدراتها ألف حساب، سواء من قبل بعض قوى الداخل الرافضة لما حدث أو قوى الخارج المتآمرة الكارهة لأي تقدم أو نجاح سياسي في كل بقاع الوطن العربي.

 والنتيجة لعدم وجود تلك القيادة المشتركة ذات الوزن الندّي الصامد هو ما نراه الآن أمامنا: تنفجر الأحداث، وتختلط الأوراق، ويموت من يموت، وتبدو الأخطار المستقبلية ماثلة في الأفق، فلا تسمع حتى كلمة واحدة عن تلك القيادة؛ ذلك أنها فشلت في أن يكون لها وجود يحسب له وأنياب يخاف بطشها من قبل أحد.

 عاد مصير السودان من جديد في يد الجيش والميليشيات المسلحة والقوى المتآمرة الداخلية والخارجية، وعادت إمكانية رجوع سكون الذل والمهانة إلى مجتمع السودان المدني الرائع المضحي بسخاء.

قد تحدث نتائج مخالفة للصورة التي نرسم بألم وحسرة، لكن الدرس المرير قد وقع، وإشكالية عدم قدرة القيادات السياسية، التي قادت وتقود الحراكات الجماهيرية في أي بقعة من الوطن العربي، على تكوين قيادة مشتركة تنسيقية تضامنية واحدة لإنجاح فترة الانتقال وإيصال المجتمعات إلى نظام ديمقراطي مستقر.

ما كان ليحدث ما يحدث اليوم لو أن مثل تلك القيادة قد عُمل على تأسيسها منذ اللحظة الأولى بعد انتصار الحراك الجماهيري.

 ما نقوله عن الأحداث التي تجري في السودان الشقيق وخلفية أحد أسباب حدوثها ينطبق على مسيرة ما جرى في تونس الشقيقة، وينطبق على فشل وتراجع محاولة لعب شباب وشابات لبنان دوراً لتصحيح الأوضاع السياسية والاقتصادية المفجعة في لبنان الشقيق، وينطبق على ما وصلت إليه الأمور في عدة أقطار شقيقة أخرى من مثل اليمن وليبيا على سبيل المثال وليس الحصر.

 لقد اختلفت التفاصيل، لكن الظاهرة بقيت واحدة: عدم قيام قيادة تنسيقية تضامنية واحدة لتقود تلك المجتمعات إلى بر الأمان.

 ولا يسمح المجال بالتذكير بتفاصيل عدم قيام كتلة تاريخية عربية تنسيقية مدنية واحدة حتى الآن بالرغم من الدمار واليباب الذي يعيشه الوطن العربي كله.

 ليست تلك الإشكالية سياسية فقط، بل إنها مرض ثقافي سلوكي ذهني عربي يحتاج إلى أن يدرس ويعالج حتى لا تنتهي جموع شباب وشابات الأمة العربية إلى الإصابة به وننتهي بأن يكون المستقبل العربي أكثر قتامة من جحيم الحاضر.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/v9bfpz5e

عن الكاتب

شغل منصب وزير الصحة ووزير التربية والتعليم سابقاً في البحرين. متخصص في كتابة مقالات في شؤون الصحة والتربية والسياسة والثقافة. وترأس في بداية الألفين مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث. كما أنه عضو لعدد من المنظمات والمؤسسات الفكرية العربية من بينها جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"