هل ينجحون في ضرب النموذج الديمقراطي التونسي؟

03:41 صباحا
قراءة 4 دقائق
لا شك في أن تونس، التي كانت أول بلدان ما يسمى "الربيع العربي"، نجحت في أن تغدو أول بلد عربي ينجح في وضع نفسه على سكة التحول الديمقراطي السلمي . وهذا ليس فقط بالمقارنة مع ما آلت إليه الأوضاع في دول هذا الربيع الأخرى التي انقلبت شتاءً إرهابياً عاصفاً، بل بالمقارنة مع المعايير الموضوعية التي وضعها علماء الترانزيتولوجيا أو التحول، الذين درسوا نماذجه في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية وأوروبا . فبعد فرار ابن علي نجح التونسيون في تنظيم انتخابات ديمقراطية لمرحلة انتقالية أوصلت "حزب النهضة" إلى الحكم بمشاركة قوتين يساريتين تسلمتا إحداهما رئاسة الجمهورية والأخرى مجلس النواب .
وبين العامين 2012 و2013 كادت الخلافات السياسية أن تهدد الفترة الانتقالية قبل أن تنتهي الأمور بالتصويت على دستور جديد ثم حكومة جديدة وانتخابات تشريعية انتهت في أكتوبر/تشرين الأول الماضي بفوز "حزب نداء تونس"، ما دفع زعيمه الباجي قائد السبسي إلى الفوز في الانتخابات الرئاسية في ديسمبر/كانون الأول، وهو في عمر ناهز الثمانية والثمانين عاماً . ثم تشكلت حكومة جديدة بأغلبية من هذا الحزب ومشاركة من آخرين بينهم "حزب النهضة" نفسه، كدليل منه على القبول بالعملية الديمقراطية .
يمكن القول والحال هذه إن النموذج التونسي يشكل خطراً على الإرهاب الذي يقدم نفسه بديلاً في عالم عربي يسعى الى تحويله "خلافة إسلامية" قروسطوية ظلامية . إننا أمام نموذجين متعارضين لا سبيل للتوفيق بينهما . وبالتالي فإن ما جرى في متحف باردو لم يكن مفاجئاً، ليس فقط لأن رئيس الوزراء الصيد أعلن بأنهم كانوا يتوقعون عملية إرهابية كبرى بل لأن لمنطقة باردو خصوصية تجعلها هدفاً متميزاً للإرهاب . ففيها المتحف الشهير الذي يقصده السياح الأجانب ليتمتعوا برؤية جواهر خالدة شاهدة على الحضارات التي تعاقبت على تونس من تماثيل وفسيفساء فريدة بجمالها ونوعها وقدمها، وفيها مجلس النواب الذي كان يعقد جلسة لمناقشة مكافحة الإرهاب، وفيها المقاهي التي يرتادها الشباب والناشطون في الأحزاب السياسية حيث تحتدم النقاشات بانفتاح وحرية، وكان فيها خيام المعارضين لحكم النهضة ومنها كانت تنطلق التظاهرات المعارضة للحكومة الانتقالية والمطالبة بإجراء انتخابات جديدة . حي باردو هو حي الثورة والتاريخ والسلطة التشريعية، وبالتالي فرمزيته أكثر من معبرة .
لقد قصد الإرهابيون إطلاق النار على السياح، وجلهم من كبار السن، من مسافات جد قريبة فقتلوا وجرحوا منهم العشرات كي يردعوا بالرعب والدم كل سائح أجنبي يفكر مستقبلاً بالمجيء إلى تونس . وقطاع السياحة التونسي يعيش فيه عشرة في المئة من التونسيين حيث يؤمن 400 ألف وظيفة مباشرة لهم وما نسبته سبعة في المئة من الناتج الإجمالي الداخلي وما بين 20 .18 في المئة من العملات الصعبة سنوياً . وهو قطاع يعاني صعوبة في التعافي من ثورة عام 2011 ومن الإرهاب الذي ضرب الجوار .
ففي سبتمبر/أيلول الماضي ألغى الكثير من الأجانب حجوزاتهم في فنادق المغرب والجزائر وتونس إثر اختطاف ثم مقتل الفرنسي ارفيه غورديل، وهذا ما فعلوه أيضاً إثر عملية "شارلي إيبدو" في باريس مطلع العام الجاري . لذلك تقوم حملات في أوروبا اليوم لحث السياح على عدم إلغاء حجوزاتهم في تونس وذلك منعاً لتحقيق أهداف الإرهابيين . فهل ينجح الإرهاب في ضرب الاقتصاد التونسي تمهيداً لضرب نموذجيته في التحول الديمقراطي؟
في تونس تنظيمات إرهابية صدرت ثلاثة آلاف مقاتل إلى سوريا، عاد منهم خمسمئة . وفيها أوكار لهم لاسيما في جبال شعانبي على الحدود مع الجزائر، حيث ينشط "أنصار الشريعة" . وفيها سوابق تمثلت في الهجوم على السفارة الأمريكية من قبل إرهابيين في 14 سبتمبر/أيلول الماضي، بعد اغتيال شخصيات وطنية يسارية وناصرية مثل شكري بلعيد في 6 فبراير/شباط 2013 ومحمد البراهمي في 25 يوليو/تموز من العام نفسه . وفيها كتيبة عقبة بن نافع وتنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي الناشط في الساحل والجوار . لكن الأخطر هو حدودها مع الفوضى الليبية المسلحة (تقول الأنباء إن المهاجمين تدربوا في ليبيا) التي باتت مصدراً للإسلام المتطرف إلى مصر وتونس وأوروبا أيضاً .
ولكن في المقابل يبقى المجتمع التونسي من أكثر المجتمعات رفضاً للتطرف، بحسب استطلاعات الرأي، وتمرساً بالحوار والانفتاح والثقافة . وقد برهن التونسيون بحراكهم غداة العملية الإرهابية في باردو عن تنديدهم بالإرهاب وتضامنهم مع الإجراءات التي أعلنت عنها الحكومة لمكافحته . وقامت في أوروبا حملة "أنا تونسي" المشابهة ل"أنا شارلي" ولو أنها تبقى أقل تنظيماً واتساعاً وتأثيراً . لكن أوروبا معنية مباشرة بمكافحة الإرهاب على حدودها الجنوبية، وبالتالي فإنها لن تتردد في تقديم كل المساعدات الممكنة لتونس في هذا المضمار، مع التأكيد على رفض التونسيين التدخل الفرنسي في شؤونهم الداخلية بذريعة مكافحة الإرهاب كما عبر الناشطون في المجتمع المدني .
لقد حدث تقصير أمني في باردو وقد تحدث عمليات إرهابية أخرى، كما هدد "داعش" . ولكن من المؤكد أن الإرهاب لن يتمكن من العملية الديمقراطية التي وضعت على سكة لا رجعة فيها .
والشعب التونسي برهن بأنه يريد الحياة وبأن القدر بصدد الاستجابة له، والدم الذي يبذل في مواجهة الإرهاب ثمن للحرية الحمراء، التي بابها بكل يد مضرجة يدق .


د . غسان العزي

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"