خطوات لتصحيح مجال التواصل الاجتماعي

03:07 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. علي محمد فخرو

إذا كان الغرب، كما بينّا في مقال الأسبوع الماضي، بدأ يقلق من تنامي الجوانب والممارسات السلبية الكثيرة في حقل التواصل الاجتماعي والرقمي الإلكتروني، ما يهدد بتشوّه وتيه نظامه الديمقراطي برمته، وإذا كانت سلطاته تفكر في وضع ضوابط قانونية لمعالجة تلك السلبيات، بشرط ألا تكون على حساب الحريات الفردية والمدنية، فإنّ كل ذلك يستوجب طرح السؤال التالي : وماذا عنّا نحن في بلاد العرب؟
في اعتقادي أننا، قبل الانتقال إلى وضع الضوابط القانونية، وفيها محاذير كثيرة، فإننا سنحتاج قبل الوصول إلى ذلك لأن نحقق خطوات عربية ذاتية بالغة الضرورة:
*أولاً، مطلوب من مراكز البحوث والدراسات العربية، المعنية بعلوم الاجتماع والسياسة على الأخص، إجراء بحوث ميدانية وإحصائية لمعرفة نوع ومدى انتشار الممارسات السلبية والعدوانية والأفكار اللاعقلانية المتزمتة في فضاء التواصل الإلكتروني فيما بين الجماعات والأفراد العرب. إن تلك الدراسات الأكاديمية الموضوعية، بعيداً عن الانطباعات والظنون، هي وحدها التي يمكن الاعتماد عليها لتشخيص العلل وسوء الاستعمال وانتهازية الاستغلال في ساحة التواصل الاجتماعي العربي.
في الغرب اتخذوا هكذا خطوة، ثم بدأوا بوضع الحلول الملائمة لأوجاع واقعهم التواصلي، وهو ما نحتاج أن نفعله نحن إن كنا نريد مواجهة ظاهرة اجتماعية جديدة، وخطرة، ومعقدة، كظاهرة التواصل الإلكتروني والرّقمي.
*ثانياً، وهذا هو الأصعب والأكثر أهمية، هناك حاجة ملحّة لأن تنبري جماعات الفكر ومؤسسات الثقافة المدنية، والمستنيرون غير المتزمتين من علماء الدين، لجعل مواضيع الفلسفات العقلانية المتحاورة، والإيديولوجيات السياسية الديمقراطية الإنسانية التقدمية، والفهم الديني المتسامح الممجد للعدالة والأخوة البشرية المحبّة المتعايشة مع الآخرين، والآداب والفنون الرافعة لسمو الإنسان الأخلاقي والروحي والنفسي، لجعل مثل تلك الثقافة حاضرة بقوة وحيوية في كل ساحات التواصل الاجتماعي العربي.
المطلوب وجود جماعات مدنية معنية بالدفاع عن الثقافة العربية وتجذير كل منتجاتها القيمية العالية في نفوس وعقول الشباب، من أجل تحييد الجوانب السلبية في الثقافات القبلية والمذهبية الفرعية المملوءة بالتشوه والانغلاق الفكري.
لا نعني بذلك تبنّي مقالاً لهذا المؤلّف، أو ذاك، أو نقل فقرة من هذا الكتاب، أو ذاك، وإنّما نعني إدماج الأفكار والقيم والمواقف والشعارات الرمزية الكبرى في ساحة كل مناقشة، أو خلاف، أو صراع تفجره جهات العبث والكذب والنفاق لإغواء وتضليل المواطنين والمجتمعات، ولتجييش العواطف الطفولية أو الشريرة.
الثقافة هنا يجب أن تردّ على كل مغالطة وتتحاور مع كل سوء فهم وتوعي على الأخص شباب وشابات الأمة بشأن ما يطرحه العصر من تبريرات للتغطية على الظلم والاستبداد والفساد، ومن محاولات لنشر ثقافة عولمية مادية أنانية استهلاكية مسطّحة.
*ثالثاً، لن يفيد تفعيل دور الثقافة العربية ذاك إلا إذا امتلك الأفراد العرب، وبالأخص النخبة العربية المنخرطة في الحياة العامة، وسائل الفهم الصحيح والاستعمال الموضوعي المتوازن لثقافة أمتهم وثقافة العصر. هذا موضوع كبير ومعقّد لا يمكن تحققه إلاّ إذا انخرطت العائلة والمدرسة والجامعة، وشتّى المؤسسات الثقافية والإعلامية في بناء مكوّناته ووسائله.
هناك حاجة لتعويد الإنسان العربي، منذ طفولته المبكّرة، لاستعمال المنهجيات العقلانية القائمة على الشك المعقول، ولطرح الأسئلة الصحيحة، وممارسة ملكة التحليل والنقد والاستقلال الذهني والاقتناع التام بأهمية المراجعة التامة والتجاوز والإبداع بالنسبة لكل جانب من جوانب الحياة، ومن دون أيّ استثناء.
إن ذلك سيعني التمييز بين البيانات والمعلومات والمعرفة، مقدار موضوعية وصدقية وعلمية وفائدة كل منها والمرجعيات التي يستند إليها. إن ذلك سيعني التفريق بين الدعاية والإعلان وخلط الأوراق والتلاعب بالألفاظ وبين الواقع الفعلي. إن ذلك سيعني معرفة نواقص الإحصاءات والحذر الدائم من ادعاءات بعض العلوم، وعلى الأخص الاقتصادية والاجتماعية، بالنّقاء العلمي.
إن ذلك سيعني القدرة والشجاعة على تجنّب التبني للمتخلف والأسطوري في الثقافة العربية والعالمية، وعلى التمسك بعناد للجوانب الإنسانية والقيمية العادلة في الثقافات.
إن ذلك سيعني عدم الشعور بالدونية أمام أية ثقافة أو حضارة تدّعي لنفسها المركزية والتفوّق وحقّ الهيمنة على ثقافات وحضارات الآخرين. إن ذلك سيعني التفريق بين الغوغائية والديماغوجية، وبين الصّوت العالي النضالي المواجه للظلم وامتهان وتسخير ذوي الحاجة والفقراء والمهمّشين.
يستطيع الإنسان أن يدرك أهمية ما ندعو إليه من مقدار حجم المحتوى الرقمي والتواصلي في فضاءات التواصل العربي فيما بين عامي 1995 و2012. فالنصوص بلغت نحو 112 مليون نص، ومن المؤكد أنها زادت بكميات هائلة بعد تفجّر الحراكات العربية منذ 8 سنوات، وبعد إدخالها من قبل أعداء الأمة في المتاهات والصّراعات والجنون.
موضوع التواصل الاجتماعي والرقمي مرشّح لاكتساح العالم، ومنه الوطن العربي. ولذا أصبح فهم تلك القفزة المركّبة واستعمال أدواتها استعمالاً صحيحاً وضبط مسارها، لإبعادها عن الشّطط والاستغلال النفعي الانتهازي، ضرورة قومية عروبية، فهي أولاً وأخيراً تعتمد على اللغة العربية، والتراث العربي، والثقافة العربية، وبالتالي فهي مشكلة عروبية قومية بامتياز.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

شغل منصب وزير الصحة ووزير التربية والتعليم سابقاً في البحرين. متخصص في كتابة مقالات في شؤون الصحة والتربية والسياسة والثقافة. وترأس في بداية الألفين مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث. كما أنه عضو لعدد من المنظمات والمؤسسات الفكرية العربية من بينها جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"