تضخم الجشع

01:40 صباحا
قراءة 3 دقائق

من المصطلحات التي يتردد استخدامها هذه الأيام في الإعلام، ومن قبل اقتصاديين ومحللين مصطلح «تضخم الجشع»، ومعناه أن معدلات التضخم العالية حالياً حول العالم لا تعود إلى عوامل اقتصادية تقليدية في السوق وإنما إلى «جشع» التجار والشركات.

بشكل مبسط، يحدث التضخم في الاقتصاد، حين ترتفع معدلات الطلب أكثر من نمو العرض وبالتالي ترتفع الأسعار. تلك هي قاعدة السوق التقليدية التي تحدد السعر والقيمة لأي سلع أو خدمة على أساس العرض والطلب عليها. ويعكس معدل التضخم، أي نسبة ارتفاع أسعار السلع والخدمات، مدى زيادة الطلب عن العرض في الاقتصاد المعني.

في أزمة وباء كورونا عام 2020، ومع إغلاق أغلب الاقتصادات للحد من انتشار فيروس الوباء، انهار الطلب وصاحبه أيضاً تراجعاً في العرض نتيجة توقف الإنتاج في كثير من القطاعات. في العام التالي، ومع فتح الاقتصادات عاد الطلب بشكل أكبر من العرض، نتيجة تعطل سلاسل التوريد الذي لم يتعافَ العالم منه بسرعة بعد أزمة الوباء. وارتفعت معدلات التضخم بقوة وبسرعة، إلا أن أغلب الاقتصاديين والبنوك المركزية حول العالم والمؤسسات الدولية اعتبرت ذلك التضخم مؤقتاً، نتيجة انتعاش ما بعد ركود الوباء وأنه سيزول بسرعة. ما حدث كان عكس التوقعات، واستمرت معدلات التضخم في الارتفاع ولم تفلح سياسات التشديد النقدي (رفع أسعار الفائدة من قبل البنوك المركزية) في وقف زيادة التضخم. واستمرت التبريرات، من قبيل أن المساعدات الحكومية للناس في فترة الوباء راكمت أموالاً لدى الأسر لم تنفقها، ما زاد من قوة الطلب في ظل النمو البطيء للمعروض السلعي والخدمي.

لكن، ما يلمسه الناس في تفاصيل حياتهم اليومية العادية لم يكن متسقاً مع كل التحليلات الاقتصادية والتبريرات السياسية لفشل السياسات النقدية والمالية للحكومات في كبح جماح التضخم. وبدأنا نسمع على استحياء تعليقات تعكس الواقع بأن الأسعار ترتفع بأعلى من معدلات التضخم وأن هناك أسباباً أخرى غير ما يكرره السياسيون من تأثير الحرب في أوكرانيا أو أزمة طاقة مفتعلة تزيد من كلفة الإنتاج بما يرفع الأسعار.

فقد انخفضت أسعار الغاز الطبيعي بشدة عن ارتفاعها الصيف الماضي عقب الحرب والعقوبات غير المسبوقة على روسيا، وعلى سبيل المثال وصلت أسعار الغاز في أوروبا إلى ما دون مستويات ما قبل الحرب وحتى ما قبل أزمة الوباء. كما انخفضت أسعار النفط التي وصلت إلى نحو 120 دولاراً للبرميل العام الماضي إلى نحو 70 دولاراً.

لماذا إذاً ترتفع الأسعار رغم انخفاض كلفة الإنتاج؟ وأيضاً رغم أن الزيادة الحادة في الطلب تتراجع مع انخفاض القيمة الحقيقية للأجور، أي تراجع القدرة الشرائية للأسر؟ ببساطة، لأن الشركات والتجار زادت من هامش الأرباح (الفارق بين كلفة الإنتاج من مكونات وطاقة وأجور عمال) وسعر البيع.

لم يكن مستغرباً إذاً؛ أن تقول نائبة مدير صندوق النقد الدولي هذا الأسبوع في مؤتمر بالبرتغال، إن الزيادة الهائلة في هامش ربح الشركات هو المسؤول الأكبر عن استمرار ارتفاع الأسعار.

هكذا، يمكن القول أن «تضخم الجشع» أصبح مصطلحاً رسمياً، حتى لو كانت مسؤولة الصندوق تفادت استخدام المصطلح بصراحة.

إن ذلك ما يقلق صندوق النقد الدولي وغيره من المؤسسات ويتخوف منه الاقتصاديون وهو دخول الاقتصاد العالمي، أو أغلب الاقتصادات الكبرى، في حالة «ركود تضخمي». بمعنى انكماش النشاط الاقتصادي مع استمرار ارتفاع الأسعار. وتلك وصفة مناسبة تقليدياً كمقدمة للكساد – الركود العميق لفترة طويلة.

تبدو المؤشرات على ذلك في إضرابات واحتجاجات العاملين في أكثر من بلد، مطالبين بزيادة الأجور لمواجهة ارتفاع الأسعار. وهذا ما قد يؤدي إلى ما يسمى «دائرة الارتفاع المستمر للأجور والأسعار».

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/58yusywp

عن الكاتب

يشتغل في الإعلام منذ ثلاثة عقود، وعمل في الصحافة المطبوعة والإذاعة والتلفزيون والصحافة الرقمية في عدد من المؤسسات الإعلامية منها البي بي سي وتلفزيون دبي وسكاي نيوز وصحيفة الخيلج. وساهم بانتظام بمقالات وتحليلات للعديد من المنشورات باللغتين العربية والإنجليزية

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"