في محبة القاهرة

00:36 صباحا
قراءة 3 دقائق

أحمد مصطفى

مرت في هذه الأيام مناسبة لم يهتم لها كثيرون، لكنها ذات أهمية بالغة ليس للمصريين فحسب بل للعرب أجمعين، وكثير من شعوب الأرض إفريقية كانت أم آسيوية وأيضاً في الغرب. وباستثناء فعالية بسيطة هنا وأخرى هناك، لم يحتفل كثيرون بمرور 1054 عاماً على تأسيس «القاهرة» عاصمة مصر التي سميت بهذا الاسم حين أنشاها القائد جوهر الصقلي بأمر من الخليفة الفاطمي المعز لدين الله عام 969 ميلادية، وتقع الذكرى في 6 يوليو من كل عام.

شهدت القاهرة قبل وبعد ذلك التاريخ تحولات من تطور وتراجع وصعود وهبوط وازدهار وأفول، لكنها ظلت على مر العصور مدينة آسرة ساحرة تصهر الغرباء في بوتقة خصالها، سواء كانوا ريفيين من أهل البلاد قصدوا قمة الحضر أو مهاجرين إليها سعياً للرزق أو لجوءاً من جور في أوطانهم.

كانت تسمى القطائع، إلى أن سميت الفسطاط في فجر الإسلام حين دخلها عمرو بن العاص في عهد الخليفة عمر بن الخطاب، وضرب «فسطاطه» في موقع ما زال يحمل هذا الاسم في القاهرة الحالية. لسنا بمعرض تفصيل مراحل تطور تلك المدينة العريقة، وهناك كثير مما كتب ويمكن الرجوع إليه من روايات قديمة في خطط المقريزي، أو بدائع الزهور لابن إياس حتى كتابات معاصرين من أساتذة المعمار والتخطيط الحضري، إلى أدباء مثل الراحل جمال الغيطاني.

إنما هذا حديث في محبة تلك المدينة، التي يقدر عدد سكانها رسمياً بنحو عشرين مليون نسمة، لكن من فيها أكثر من ذلك في الواقع. وحين نتحدث عن القاهرة في أيامنا السابقة كنّا نقول «مصر»، خاصة نحن أبناء الريف والمحافظات الأخرى شمالاً وجنوباً. حتى محطة قطاراتها الرئيسية اسمها «محطة مصر»، وبالتالي هناك «محطة مصر» في المدن الكبرى الأخرى من الإسكندرية إلى أسوان. وفي فترة ما بين القاهرة الفاطمية والقاهرة الخديوية (أو الإسماعيلية نسبة إلى الخديوي إسماعيل في نهايات القرن التاسع عشر) كانت تسمى «مصر المحروسة».

في التراث الشعبي للمصريين «اللي بنى مصر كان في الأصل حلواني»، وسواء كان ذلك لقباً عائلياً أو مهنة، فدلالته أنه صانع لكل ما هو «حلو» وجميل. وهي مدينة كذلك لمن عاشها ولم يعش فيها فقط، ومن غاص في عبقها العميق محبة وشغفاً وإدراكاً لما بها من درر وكنوز. رغم أني من ريف دلتا النيل، ولم أعش في القاهرة إلا مع دخولي الجامعة، إلا أني غرقت فيها إلى حد لم يحدث مع أي مدينة أخرى في العالم. مثل كثير من المدن القديمة في المناطق ذات الحضارات التليدة، تحمل القاهرة وأهلها الأصليون خصالاً فريدة، لكن العاصمة المصرية تتفرد في بعض خصال حصرية. فما من حجر في مبانيها القديمة أو بلاطة في شوارعها التاريخية إلا ويحوي حكايات متراكمة لفترات تاريخية ومناطق جغرافية، تمتد من شرق الأرض إلى غربها ومن جنوبها إلى شمالها. فيها ما ترك مغاربة وقوقازيون من أثر، مرورا بها أو إقاموا فيها، وما بقي من أفارقة وآسيويين وأوروبيين على مر فترات التاريخ. 

ورغم التوسعات، أفقياً ورأسياً، مخططاً وعشوائياً، على مر الزمن تظل القاهرة هي الفاطمية/الإسماعيلية وضواحيها التاريخية من شبرا شمالاً إلى «مصر العتيقة» جنوباً. ومع أن التوسع العمراني امتد شرقاً حتى كاد يلامس قناة السويس، وغرباً في عمق الصحراء وجنوبها نحو الفيوم، إلا أننا ما زلنا حين نقول «وسط البلد» نعني شوارع القاهرة الخديوية، و«البلد» هي محيط ذلك الوسط من الأحياء الأقدم. 

رغم قلة السنوات التي أمضيتها في تلك المدينة الآسرة، إلا أن بها عامل جذب غير موجود في أي مدينة أخرى قديمة أو حديثة. ليس هذا فحسب، بل إن لها رائحة ليست ككل الروائح رغم قلة المزروعات بها، وطغيان الأسمنت على مظهرها. ولها أيضا طعم تشعر بمذاقه ما أن تمضي فيها وقتاً ولو قصير. ذلك الطعم والرائحة لم يصلا إلى امتدادات القاهرة غرباً وشرقاً ولا شمالاً أو جنوباً. فأغلب تلك «النتوءات» الحضرية ليس بها كثير من خصال القاهرة، مصر المحروسة، سوى أن سكانها كانوا «قاهريين» وتغيروا – ولا أقول تطوروا. فالتطوير يحمل أسس السابق، ويجدد عليها بابتكار وإبداع، وليس هذا بحال ضواحي العاصمة الجديدة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/yrrfxpvj

عن الكاتب

يشتغل في الإعلام منذ ثلاثة عقود، وعمل في الصحافة المطبوعة والإذاعة والتلفزيون والصحافة الرقمية في عدد من المؤسسات الإعلامية منها البي بي سي وتلفزيون دبي وسكاي نيوز وصحيفة الخيلج. وساهم بانتظام بمقالات وتحليلات للعديد من المنشورات باللغتين العربية والإنجليزية

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"