تجارب ناجحة . . قيادة وفكر

02:56 صباحا
قراءة 5 دقائق

لا نبالغ إذا قلنا إنه ما من تجربة بشرية ناجحة على مر التاريخ، إلا وكان وراءها قادة عظام ومفكرون نابغون، تحدوا الصعاب وتجاوزوا العقبات، بفضل ما أعطاهم الله من رؤى وأفكار وصفات وملكات، لم تكن متاحة لغيرهم، في مرحلة من مراحل التاريخ، تدبروا فيها الماضي وقرأوا الحاضر واستشرفوا المستقبل، وحققوا لأوطانهم نهضة اقتصادية وتحولاً سياسياً، وتطوراً ترك بصمة بمداد من ذهب في مراحل فارقة في تاريخ البشرية المعاصرة، قائمة على الأفكار رغم مايشوبها من نواقص .

المفكر مالك بن نبي يرى أن لدى كل إنسان أسطوانة يحملها منذ ولادته، وأيضا لكل مجتمع أسطوانته وأنغامه الخاصة به التي تميزه عن غيره من المجتمعات، ومن يقرأ التاريخ، حديثه والمعاصر، يرى كيف تمكنت دول مثل ألمانيا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية، من تجاوز الصعاب وحجم الدمار والانهيار الكامل، واستطاعتا بفضل احتفاظهما بعالم الأفكار أن يبنيا كيانهما من جديد، حيث تمكن الألمان من بناء قوة سياسية واقتصادية، تعدّ قلب أوروبا، بل إذا ما قرروا الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، فهذا يعني تلقائياً انتهاء هذا الاتحاد، وسقوط عملته اليورو، بينما مثل نتاج التاريخ حافزاً لدى الجانب الياباني، في بناء نهضة عصرية في القرن التاسع عشر، وضمان استمراريتها وتحصينها من سلبيات التحديث، من دون التخلي عن تقاليد اليابانيين الموروثة، وقيمهم التقليدية، وسلوكهم الاجتماعي المميز .

أما هنا على ضفاف الخليج في إمارات الساحل العربي، ولمن عاصر ظروف الحياة ووطأتها، قبل عقود، وحجم التحديات، والرهانات المعقودة على زعماء المنطقة، للخروج من حالة التمزق السياسي، والتخلف الاقتصادي، والثقافي، والتطلع إلى بناء كيان قوي معافى، أساسه وعماده الفكر والإيمان، بقيادة الشيخ زايد طيب الله ثراه الذي كان له عالمه وفكره الخاص في ظل عالم رحب ليس له حدود، تمكن ورفاق دربه راشد طيب الله ثراه والآباء المؤسسون، من بناء دولة حديثة، ومن تحقيق هذا الحلم الكبير، في لحظة حاسمة من تاريخ المنطقة .

وفي تجارب بلدان مثل ماليزيا وتركيا والبرازيل، الأولى قادها مهاتير محمد الذي يعد واحداً من أعظم السياسيين والاقتصاديين في آسيا، حيث استطاع تغيير وجه ماليزيا، وجعلها في مصاف الدول الاقتصادية المتقدمة، مستلهماً التجربة اليابانية، كونها المحرك الرئيس في تطور وتوعية الشعوب الآسيوية، ما أطلق عليه وهم التفوق الأوروبي، وتجربة تركيا بقيادة الزعماء الكاريزميين رجب طيب أردوغان وعبدالله غول وأحمد داوود أوغلو، التي فيها من الدروس والعبر الشيء الكثير، وما تحقق لهذين البلدين على أيدي هؤلاء القادة من تحول ديمقراطي، وتقدم صناعي واقتصادي، أصبح يضرب به المثل في عالم السياسة والمال .

أما الملحمة البرازيلية الناجحة، بزعامة القائد العمالي لولا دا سيلفا، التي جعلت من بلاده أكبر مستودع للتنوع الحيوي في العالم، وأسهم في وضع بلاده ضمن أقوى الاقتصادات والقوى الإقليمية، وتبنى سياسة خارجية براغماتية، وبفضل هذه السياسات والبرامج الحداثية، في عالم الاستثمارات والاقتصاد، ارتفعت معدلات النمو في بلاده وحققت مكاسب حازت رضى الفقراء والطبقات الوسطى، وتأييد رجال الأعمال والطبقات الغنية والمتوسطة، واحتلت فيها البرازيل المرتبة السادسة، بين دول العالم، وفازت فيها بشرف استضافة دورة الألعاب الأولمبية لعام ،2016 كانت تلك اللحظة تتويجاً لعبور البرازيل إلى المسرح الدولي كقوة اقتصادية وسياسية وثقافية، وصعوداً ليس وليد اللحظة، بل بدأ قبل عقدين من الزمن، كقوة إقليمية تلعب دوراً محورياً في قضايا القارة والعالم كعرضها التوسط في ملف الشرق الأوسط والملف الإيراني .

وما لم يوفق فيه محمد خاتمي المثقف في إيران من إنقاذ ولو جزء يسير من مشروعه الفكري والسياسي بين سنوات قضاها وزيراً للثقافة، ورئيساً للجمهورية، فهو لتعنت المحافظين والمتشددين، رغم تطلعه إلى بناء مجتمع مدني، فيه دور للمؤسسات المدنية كمثيلاتها في الغرب نقابات وصحف ومؤسسات غير حكومية يحركها هدف وتلتزم بقواعد مختلفة، ضمن خصوصية القيم الدافعة، والحركة للسلوك التي تستلهم من التاريخ الإسلامي، ولعل ما في كتابيه الديمقراطية وحاكمية الأمة والختامية المصالحة بين الدين والحرية، خير تعبير عما يفكر به ويرغب في تحقيقه .

فالصلة وثيقة بين عالم الثقافة وعالم السياسة، وتبدو إشكالية المثقف والسلطة جلية في حالة ما أعطاه للأمة أشخاص من موقع المثقف، وما لا يستطيع أن يعطيه وزراء الثقافة العرب، فكما لا ينسى التاريخ ولا ذاكرة القارة السمراء أن ليوبولد سنغور أول رئيس للسنغال وأحد أهم المفكرين الأفارقة والأديب والشاعر العالمي الشهير قد تنازل عن منصب الرئاسة بمحض إرادته، أيضاً التاريخ لا ينسى مفكرين بحجم، عبد الوهاب المسيري، ومحمد الجابري، وبن باديس، وعلال الفاسي، ومالك بن نبي .

وما من زعيم أو مفكر أو فيلسوف أخلص في سعيه إلا وكان له نصيب مما اجتهد فيه وحلم به، البداية فكرة جمعت حولها قادة كونوا أمة، وأنتجت حضارة مادية من المنتجات والخدمات المختلفة، زراعة وصناعة ومبان وغيرها من الملموسات والماديات . الفيلسوف الألماني هيغل يرى أن القصور البشري لاينقص من العمل شيئاً بل تنبعث منه فكرة ثانية، من خلال التحسين المستمر للأفكار، وإعطاء مساحة واسعة للمتحاورين والمتناظرين والمفكرين، كي لا تخنق الأفكار في مجال معين، بل من خلال اصطراعها تتولد الأفكار الجديدة .

وللفكرة الفلسفية انعكاساتها على السياسة، فولدت التسلط وعلى الاقتصاد فولدت الاستهلاك، وعلى التربية فولدت العنف، هذا الثالوث الذي هيأ المجتمع لتقبل المصطلحات الأيديولوجية الوافدة، وهي كمجهود بشري تعيق أحياناً الفكرة الدينية، عن لعب دورها الحضاري، وتحولها من الممارسة إلى المحاربة .

والراصد للتحولات في العالم، يجد أنه ما من قصة نجاح تحققت إلا وكان وراءها قائد، وبالمقابل ما من فشل تعثر إلا وكان وراءه أيضاً فاعلون . عالمنا العربي، الآن يتعاطى مع أدق وأخطر قضاياه باستخفاف عجيب، وننسب تخلفنا وضعفنا إلى مجاهيل، ونهرب من مواجهة الواقع، ونتوغل في العمى والتعمية كأننا نستمرئ المزيد من الشقاء والتفتّت، ونستدعي المزيد من العصاب الطائفي والمذهبي والإثني، ونعجز عن التفكير في استثمار التطورات في بيئتنا الإقليمية، أو حتى التحاور مع الصاعدين الطموحين بندّية . ونؤسس لعلاقات تعاونية في المستقبل .

للأسف الصدوع تتسع بين الأقطار العربية، وتتربى أجيال جديدة على مفاهيم مضادة للهوية والوطن والآخر، حتى العدو صار ملتبساً، وأكثرنا من الثرثرة عن الاعتدال والتسامح، حتى أنتجنا أسباباً إضافية للغلو والتطرف، وأفرطنا في هدر الإمكانات، فزاد الفساد، وعمّ البر والبحر، وحجم الهوان يكفي لإحداث نقلة في الوعي، ثم الفعل، لكن . . قد أسمعت لو ناديت حياً .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"