السلام.. مرجعيّاته ومحدّداته

00:08 صباحا
قراءة 3 دقائق

يشهد العالم في المرحلة الراهنة نزاعات وحروباً في مناطق عدة من جغرافية الكرة الأرضية، في إفريقيا وآسيا وأوروبا والشرق الأوسط، الأمر الذي يعرِّض الاستقرار الدولي لمخاطر جمة، ويؤكّد في اللحظة نفسها حاجة الشعوب إلى السلم والأمن والطمأنينة من أجل تجسيد مشاريع التنمية المستدامة، وتجاوز وضعيات الفقر والجوع التي يعانيها الأفراد في المناطق الهشة، وأماكن الحروب بشكل بات يضاعف من المآسي الإنسانية.

ويشير مفهوم السلام انطلاقاً من أبسط التعريفات التي يخضع لها، إلى انعدام الحرب أو المواجهة، بين طرفين متعارضين من حيث التصورات والمصالح، بحيث تستند حالة انعدام الحرب هذه إلى توازن غير مستقر بين مختلف القوى، وفي مقابل هذا التعريف القائم على الطريقة السلبية هناك تعريف إيجابي، كما يشير إلى ذلك براتراند بادي، وهو تعريف حرص ميثاق الأمم المتحدة على إبرازه، ويستند إلى تصور السلام انطلاقاً من مرجعية فكرة الأمن الجماعي الدائم، وأيضاً انطلاقاً من النظر إليه كنمط للتعاون بين الدول، ويجري توسيعه دائماً إلى الميادين الاقتصادية والاجتماعية، برعاية مؤسسات الأمم المتحدة ذات الصلة بهذين الميدانين؛ وهذا المنظور الجديد للسلام يكون مصاحباً لظهور مذهب سلام إيجابي يعلن أن السلام سيكون مدعوماً بشكل خاص من طرف التقدم في مجال حرية المبادلات أو من خلال نشر قيم الديمقراطية انطلاقاً من مقولة وهمية يروِّج لها البعض تفيد بأن «الديمقراطيات لا تُشعل الحروب فيما بينها لكونها تحترم حقوق الإنسان».

وتزعم نظريات الليبرالية الجديدة أن قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان تسهم في ترسيخ تصورات النزعة الإنسانية للسلام الإيجابي، وهي الرؤية التي يرفضها علم الاجتماع الخاص بالنزاعات، فقد أشارت تقارير المنظمات المختصة في مجال التنمية، إلى أن السلام يظل مرتبطاً بتلبية الحاجات الإنسانية. ويتساءل أوبير فيدرين، وزير الخارجية الفرنسي الأسبق، في السياق نفسه عن الكيفية التي يمكننا من خلالها إقامة السلام أو استعادته؟ ويجيب قائلاً إن هناك مدرستين متعارضتين في هذا الشأن، الأولى مثالية، وهي أقرب ما تكون لدين خاص بالسلام، تحرص على تعليم وغرس محبة السلام كأنها تطالب من كل من يتبنّى مبادئها أن يقدِّم للناس خدّه الأيمن في سياق نزعة السلم المتطرفة، ويتم بذلك اعتبار من يمارسون الحروب بمثابة أشخاص خارجين عن القانون.

أما المدرسة الثانية التي يشير إليها فيدرين، ويقول إنه من أنصارها، فهي المدرسة الواقعية، وتشير إلى أن السلام يتم بناؤه وتجري المحافظة عليه من خلال توازن القوى وقوة الردع، مصداقاً للقول الذي يذهب إلى أنه عليك أن تُظهر قوتك حتى لا تضطر لاستخدامها، فقد أعاد الحلفاء نشر السلام سنة 1945 بالاعتماد على القوة، كما يمكن إعادة السلام من خلال المفاوضات المدعومة بالتهديد باستعمال القوة، حتى يجنح الطرفان المتصارعان للسلم برضاهما، أو أن يكون هنك طرف منتصر، أو قوة أكبر منهما تفرض عليهما السلام.

وعليه، فإن الأمن الجماعي يظل مجرد حلم إذا لم يكن مدعوماً بوسائل خشنة تعمل على فرض احترام التعهدات التي جرى تقديمها، أو مستنداً إلى حالة من التبعية المتبادلة تدفع طرفي النزاع للتعقل من أجل المحافظة على مصالحهما المشتركة، أو مدعوماً أيضاً بقوة مشتركة في سياق تحالف عسكري يجمع أطرافاً متعددة، ومن ثم، فإنه لا يمكن للأمم المتحدة، انطلاقاً من وضعيتها الحالية، أن تفرض السلم بمعزل عن القوى التي تشكّلها.

ونستطيع أن نلاحظ في الإطار التطبيقي لمفهوم السلام أن ازدواجية المعايير التي تعتمدها القوى الغربية، لا يساعد على تحقيق السلام، حيث أدى إصرار واشنطن على توسيع حلف الناتو ليصل إلى حدود روسيا، إلى خلق وضعية غير مسبوقة من التوتر في شرق أوروبا، كان من نتائجها اندلاع الحرب في أوكرانيا، لأن روسيا شعرت بأنها إذا استمرت في تجاهل تحركات الدول الغربية فإن أمنها القومي سيتعرض لتهديدات جدية.

وتؤدي ازدواجية المعايير في اللحظة نفسها، إلى مزيد من التوتر والتصعيد في منطقة الشرق الأوسط، من منطلق أن المجتمع الدولي أخفق حتى الآن، في توفير شروط السلام بسبب عجزه، أو عدم رغبته في تجسيد مشروع حل الدولتين الذي ظل حبراً على ورق لعقود طويلة من الزمن.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/2n6ren4e

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"