الحفيد والحفيدة

04:10 صباحا
قراءة 3 دقائق
د.يوسف الحسن

}} روح هذه المرحلة من العمر، يختصرها حفيد وحفيدة، يتسللان إلى النفس، كموسيقى شجية ناعمة قادمة من السّماء والبراءة والطهر.. يجددان الحياة، ويعطيانها معنى جديداً.

}} تقول الحكاية: إننا حينما «هرمنا.. في انتظار هذه اللحظات» ، (كما يقول التونسي المشهور.. وربما «المفجوع» الآن بعد هذا «الخريف الدّموي العربي»).. و«خفّفنا» سرعة سيرنا في هذه الدنيا، وتواضعت فيها طموحاتنا وأحلامنا «بتحرير القدس»، تَخلَّق من تعبنا، أحفاد، يضيفون إلى أجدادهم أحلاماً خضراً، تساعدهم على مواجهة توتر الأعصاب في الأزمنة الصّاخبة.. وما أكثرها في هذه الأيّام.
}} يخطفني الحفيد من ازدحام السنين، يستدرجني إلى عوالم الطّفولة، عوالم الفرح الصافي، واللّهو البريء، عوالم خالية من ألغاز الكبار وأوجاعهم و«أكروباتهم».
}} في رفقة الحفيد، أسير وفق رغباته، يمشي نهاري معه، ومع شقيقته، كغيمة ماطرة، في يوم ربيعي مزهر، وبرفقتهما تحضر في النفس كل طقوس البراءة والأسئلة الخضر، نجرّ العمر معهما برضا وسعادة، ونولّد لهما من أبسط الأشياء لعباً وتماثيل وألواناً، نلعب معهم ونعود إلى أول العمر.
}} يسألني، ولا يعايرني، عن سبب «الشّيب» في شعر رأسي، يضحك ببراءة وهو يحاول تغيير وضع «العقال»، وجذب «الغترة»، والعبث بتلك الشعيرات البيض الرماديّة. يضعني وجهاً لوجه مع العمر، ومع التاريخ والغد.
}} أتغزّل بالحفيدة، وهي تقفز بخطوات ظبي، كرفيف فراشة حالمة، وتروي لي حكايات يومية عن مدرستها وصويحباتها في صفوف «الحضانة»، حكايات يختلط فيها الخيال والواقع، وتضيع معها مفردات لغة الضاد، وتمتدّ أصابعها الصغيرة إلى جهاز (آي باد)، باحثة،وبمهارة ، عن لعبة تسلّيها، وهي تسأل وتتناول غداءها في الوقت نفسه.
}} يُقلّد الحفيد جدّه في بعض حركاته وكلماته، يردّد شيئاً من وصاياه التي فهمها، ويسأله أن يشاركه ألعابه، وأن يحكي له قصة تجلب له السّعادة والدّهشة، ويتمنى عليه مشاهدة برامج تلفزيونية عن الطبيعة وبسمات الأطفال بدلاً من مشاهدة «نشرات الأخبار.. وصراع «الدّيكة» بين المثقفين».
}} يطرح أسئلة تحتاج إلى صبر وحكمة وتفكير وتبسيط.. قبل الإجابة عنها.. كلام الأحفاد وهم صغار ليس كتاباً.. لكنه يفكّ «لغز» الوضوح. تدهشنا الأسئلة المفاجئة وغير المتوقعة.
}} نبحث عن كلمات بيض، عن إجابات منطقية لأسئلة البراءة..
}} قبل أيّام، تعلّم الجدّ، درساً دينياً صعباً، حينما كان يشرح للحفيد فوائد السحور في رمضان، ويبدو أن الجدّ نسي للحظات أنه أمام طفل في السادسة من عمره، فذكر ما معناه «تسحّروا ولو أن يضع أحدكم إصبعه على التراب، ثم يضعه في فمه»، فقال الحفيد: «أي الأصابع يا جدّي»؟
}} يخسر الجدّ أحياناً، المناقشة مع الحفيدين، حينما يحاول تطبيق «شيفرة» أخلاقية، ومبادئ ومُثُل، يعلّمها لهما، مستخدماً «التحايل» وربما «التكاذب».. فتقول أمّهما - متباهية -: «إنّه النضوج يا أبتي»..
}} رأيت مولدهما، ثم تقدّمهما في العمر، يحبوان، يمشيان، يلثغان بأول الأسماء، وأمامهما استسلمتْ كل قلاعي. وكلما نظرت إليهما، يمرّ شريط سريع من ذكريات العمر، وأطوار الخلق، وتواصل الأجيال.. ورحلة تطور أبنائنا وبناتنا.
}} يكبر الأحفاد، في زمن جراحه تفيض في كل مكان، نخاف عليهم من الحروب والقهر، ومن الحرّ والبرد، واحتباس الهواء والحريّة، ومن أفخاخ السياسة وأخطاء الساسة ونرجسياتهم، ومن قسوة الزمان ، والغلاة، وجفاف مساحات الحبّ والطمأنينة.
}} هل ستكون أيامهم أجمل وأهنأ من أيامنا؟ وهل يكون العالم أفضل ممّا هو عليه الآن؟
}} هل سيكون الزمن القادم رقيقاً ووديعاً ورحيماً مع الأطفال، يحبهم ويضعهم على كتفيه، كما يفعل الجدّ الآن. يشتري لهم «الآيس كريم» و«البوب كورن»، ويعلمهم رسم وتلوين القمر والشمس والنجوم ومراكب البحر والأميرة السعيدة، والبكاء أمام مشهد أطفال حزانى وجوعى ولاجئين وخارج التعليم؟
}} من سيعلمهم أن الدّين محبّة ورحمة، وعمل صالح، ويسر وجمال، وصدق وسلام.. وعدل و.... و.... وأنْ لا شيء في كفيه غير الدّفء والعطاء.
}} حينما يحضر الأحفاد، تَخْضرّ خُطاي، وتشرّع الذاكرة لهم أبوابها، نستحضر أولادنا وهم صغار، ونرتدّ أحياناً إلى صدور أمهاتنا الغائبات وإلى ضفيرة كانت تتسلى بها أصابعنا، وحروف كنا «نتهجّاها»، و«آية الكرسيّ» نردّدها من غير أن نعرف معناها.
}} تعود الحفيدة من مدرستها، تحكي لي حكاية سمعتها، وربما تخيلتها، وكيف رأت نحلة وفراشة، تحطّان على وردة، وكيف أعطت «موزتها» إلى صديقتها، ورسمت على كفّها، ألواناً تحبّها، وكيف توجعت من «إظفر» غير مقصوص في قدمها، وزرّ من أزرار ثوبها، سقط خلسة، وحكايات أخرى لا تعني شيئاً.. لكنها تكفيني، وتدهشني وأحتضنها وأجلس معها، وأقول لها: «ما أجمل الورد في مفرق شعرها».
}} ستة أعوام مرّت.. لا أعرف كيف؟

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"