عادي

العدل النبوي مع الآخر

22:58 مساء
قراءة 4 دقائق
1

السيرة النبوية زاخرة بالمواقف التي حرص فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، على تطبيق العدل على الجميع، المسلمين وغير المسلمين، فالجميع أمام المحكمة المحمدية سواسية؛ قال صلى الله عليه وسلم: «ألا مَنْ ظلم معاهِداً أو انتقصه أو كلّفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئاً بغير طِيب نفس، فأنا حجيجه يوم القيامة»، وقال صلى الله عليه وسلم: «مَن أعان على خصومة بظلم، أو يعين على ظلم، لم يزل في سَخَط الله حتى يَنْزِع».

وها هو صلى الله عليه وسلم يرسّخ لمبدأ العدل في أول دستور للدولة الإسلامية، بعد هجرته إلى المدينة المنورة، في «صحيفة المدينة» التي تُعد أول معاهدة بين الرسول واليهود، حيث جاء فيها: «وإنه لم يأثَم امرؤ بحليفه، وإن النصر للمظلوم»، فالنصر للمظلوم أياً تكن ديانته أو جنسيته أو لغته أو مكانته. كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم، الشيء نفسه في معاهدته مع نصارى نجران: «ولا يُؤخذ رجل منهم بظلم آخر». وكثيراً ما أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم، عماله على الأمصار بتحري العدل، والحذر من الظلم، ففي وصيته لمعاذ بن جبل رضي الله عنه حينما أرسله إلى اليمن، قال: «إنك ستأتي قوماً أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله.... واتَّقِ دعوة المظلوم؛ فإنها ليس بينها وبين الله حجاب». وكان صلى الله عليه وسلم يحذِّر من دعوة المظلوم حتى وإن كان كافراً، قال صلى الله عليه وسلم: «اتقوا دعوة المظلوم وإن كان كافراً، فإنه ليس دونها حجاب».

والمواقف التي تشهد على عدله صلى الله عليه وسلم، أكثر من أن تُحصى، منها ما حدث عندما سرق رجل من الأنصار درعاً من جارٍ له مسلم، ثم خبأها عند يهودي، ولأن الدرع كانت في جراب به دقيق، فأخذ الدقيق ينتثر من خرق في الجراب حتى انتهى إلى دار اليهودي.. ومن ثم، فإن كل الشواهد تؤكد أن الذي سرق الدرع هو اليهودي؛ لأنهم تتبعوا أثر الدقيق حتى داره، وبالفعل وجدوا الدرع عند اليهودي، الذي اعترف بأن الأنصاري هو مَن أعطاه الدرع، وجاء رجال من قبيلة الأنصاري إلى الرسول، ليحاجّوا عن صاحبهم، فهَمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعاقب اليهودي، لثبوت الدليل والقرينة على إدانته، فأنزل الله تعالى آيات بينات تُبرّئ ساحة اليهودي، وتدين الأنصاري المسلم، قال الله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106) وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا} (النساء: 105-107) إلى قوله تعالى: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} (النساء: 112) وهنا حكم الرسول صلى الله عليه وسلم ببراءة اليهودي وإدانة المسلم.

حكم بالعدل

ثمة قصة أخرى بين يهودي استدان منه جابر بن عبدالله رضي الله عنه، وعندما حان موعد قضاء الديْن، لم يكن مع جابر ما يقضي به دَيْنه، فطلب من اليهودي أن يمهله عاماً حتى يستطيع السداد، لكن اليهودي رفض، فذهب جابر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ليتوسط بينه وبين اليهودي، فما كان منه صلى الله عليه وسلم إلا أن ذهب إلى اليهودي ليستشفع لجابر، لكن اليهودي رفض، وقال: أبا القاسم، لا أنْظِرَه.. وعلى الرغم من تكرار طلب الرسول من اليهودي فإنه لم يوافق.. يقول جابر: فقمتُ فجئتُ بقليل رطبٍ فوضعته بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، فأكل ثم قال: «أين عريشك يا جابر؟» فأخبرته، فقال: «افرش لي فيه»، ففرشته، فدخل فرقد ثم استيقظ، فجئته بقبضة أخرى، فأكل منها ثم قام فكلم اليهودي فأبى عليه، فقام في الرِّطاب في النخل الثانية ثم قال: «يا جابر، جُدَّ واقضِ»، فوقف في الجِداد فجددتُ منها ما قضيته، وفضل منه، فخرجتُ حتى جئتُ النبي صلى الله عليه وسلم، فبشَّرته، فقال: «أشهدُ أني رسول الله».

ومن المواقف التي حكم فيها الرسول صلى الله عليه وسلم لليهود على حساب المسلمين، لعدم وجود دليل يؤكد إدانتهم، ما حدث من قتل يهود خَيبر رجلاً من الأنصار، فقال الأنصار: قتلتم صاحبنا، قالوا: ما قتلنا ولا علمنا قاتلاً. فانطلقوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.. فقال لهم: «تأتون بالبيّنة على مَن قتله؟» قالوا: ما لنا بيّنة. قال: «فيحلفون»، قالوا: لا نرضى بأيمان اليهود. فما كان من الرسول صلى الله عليه وسلم إلا أن دفع ديته من إبل الصدقة؛ لعدم وجود دليل على إدانة اليهود، على الرغم من أنه صلى الله عليه وسلم يعلم أن اليهود هم مَنْ قتلوا الأنصاري، لكنه صلى الله عليه وسلم وضع قاعدة راسخة لإقامة العدل، حيث قال: «لو يُعطَى الناس بدعواهم، لادعى رجال أموال قوم ودماءهم، ولكن البينة على المُدعي واليمين على من أنكر».

ولعل قصة المرأة المخزومية التي سرقت؛ وجاء حِبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد، يشفع فيها، ستظل شاهدة على مر الزمان، أنه لا شفاعة في حدٍ من حدود الله، حتى وإن كان الجاني فاطمة بنت محمد، فعن السيدة عائشة رضي الله عنها، أن قريشاً أهمّهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت، فقالوا: مَن يكلّم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: ومن يَجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حِبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلّمه أسامة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتَشفع في حدٍ من حدود الله؟ ثم قام فاختطَب (أي: خَطَبَ) ثم قال: «إنما أهلَك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرَق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيْم الله، لو أن فاطمة بنت محمد سرَقت، لقطَعتُ يدها».

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/2dt7n2n7

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"