السياسة الخارجية الفرنسية الجديدة

05:55 صباحا
قراءة 4 دقائق

خلال حملته الانتخابية في العام 2007 وعد المرشح ساركوزي بإحداث قطيعة مع السياسة الخارجية الشيراكية في حال انتخابه رئيساً للجمهورية الفرنسية .

وقد سارع إلى تنفيذ هذا الوعد بعيد انتخابه لاسيما حيال سوريا التي أعاد تطبيع العلاقة المنقطعة معها منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري في العام ،2005 كما أنه أعاد فرنسا إلى حلف الأطلسي وإلى التحالف الوثيق مع الولايات المتحدة . ويأخذ عليه خصومه أنه كان لصيقاً بالسياسات الأمريكية إلى حد التبعية، الأمر الذي يذهب في عكس التقليد الديغولي القائم على استقلالية فرنسا في سياساتها الخارجية رغم صداقتها مع الولايات المتحدة .

لكن المتابعة الدقيقة للسياسة الخارجية الساركوزية تفضي إلى الاستنتاج أنها لم تبتعد طويلاً عن الخط الديغولي رغم خصوصية الأسلوب المتبع والمفردات المستخدمة في السنوات الخمس المنصرمة . فالقطيعة مع سوريا عادت بعد انفراج لم يدم طويلاً، والعلاقة الوثيقة مع ألمانيا خصوصاً والشركاء الأوروبيين عموماً بقيت على حالها رغم الأزمات، والحلف الأطلسي استفاد منه ساركوزي لتحقيق مصالح فرنسية (التدخل العسكري في ليبيا على سبيل المثال) والموقف من الصراع العربي الإسرائيلي كما العجز حياله لا يزال هو نفسه منذ إعلان البندقية أيام المجموعة الاقتصادية الأوروبية في العام 1980 .

والآن مع وصول الاشتراكي فرنسوا هولاند إلى الإليزيه، هل من تغير مرتقب في السياسة الخارجية الفرنسية خارج اللمسات والمفردات والأسلوب الشخصي للفريق الجديد؟

من اللافت أنه في المناظرة المتلفزة بين المرشحين ساركوزي وهولاند لم تحتل السياسة الخارجية أكثر من خمس عشرة دقيقة من أصل ساعات ثلاث طويلة، ما يثبت انعدام الأهمية التي يوليها الناخب الفرنسي للملفات الخارجية . ولم تكن هناك فروق واضحة بين الرجلين في النظرة إلى الخارج . فحتى الخلاف في الملف الأفغاني، حيث يؤيد ساركوزي بقاء القوات الفرنسية حتى نهاية العام 2013 ويطالب هولاند بانسحابها مع نهاية العام الجاري، لا يمكن اعتباره جوهرياً . ذلك أن هولاند وافق على أن سحب المعدات الثقيلة قد يتطلب وقتاً أطول، الأمر الذي يوفر له فرصة التراجع عن هذا الوعد، لاسيما إذا اصطدم بمعارضة حلف الأطلسي . أما بالنسبة إلى سوريا فقد أيد هولاند انضمام بلاده إلى حملة عسكرية ضدها إذا ما صدر قرار أممي بذلك . وفي الملف الإيراني ما من خلاف بين اليمين واليسار الفرنسيين، ساركوزي يؤيد الاعتماد على الطاقة النووية في فرنسا بسبب ارتفاع أسعار الطاقة الأحفورية ويعارض امتلاك إيران للطاقة النووية . أما هولاند فوعد بإقفال أحد المفاعلات الذرية الفرنسية وبالحد من استهلاك الطاقة النووية كما طالبه أنصار البيئة، ما يعني أنه لن يكون مؤيداً للذرة في إيران . وفي ما خلا ذلك فلم يكن هناك من ملفات خارجية كبرى خلال المعركة الانتخابية إن كان لجهة العلاقة مع روسيا أو الصين أو الدول الناشئة أو حتى الولايات المتحدة . أكثر من ذلك غابت الثورات العربية عن النقاش رغم الأهمية الكبرى للمنطقة المحاذية لأوروبا، والتي منها يتوجه المهاجرون إلى فرنسا، حيث احتل ملف المهاجرين مكان الصدارة في الجدل الانتخابي . أما بالنسبة إلى القضية الفلسطينية فموقف باريس لن يتغير إذ إنها، كما قال هولاند، تفضل اعترافاً دولياً بالدولة الفلسطينية على اعتراف فرنسي منفرد .

الملف الخارجي الأهم الذي ساد النقاش الانتخابي كان له صبغة داخلية واضحة، وهو أزمة اليورو والعلاقة مع الشركاء الأوروبيين . فقد وعد هولاند بالعودة إلى المفاوضات معهم لتعديل بعض الاتفاقيات، ولاسيما تلك المتعلقة بالعجز الخزيني، بهدف التخلي عن سياسة التقشف القائمة وتبني سياسة نمو اقتصادي كانت عماد برنامجه الانتخابي . هنا من المتوقع أن يواجه هولاند صعوبات في العلاقة مع انغيلا ميركل التي تستعد للقائه غداة تسلّمه مهامه، فهي تعارض رؤيته لحل أزمة اليورو وتصر على الاتفاق المتعلق بالتقشف وضبط العجز الخزيني . ويأمل هولاند أن يكون انتخابه بداية لعهد يعود فيه اليسار إلى الحكم في الدول الأوروبية الأخرى، الأمر الذي سيغير وجه الاتحاد الأوروبي، كما قال غير مرة .

عندما وصل الاشتراكي فرنسوا ميتران إلى الإليزيه في العام 1981 سمعنا كلاماً كثيراً عن سياسة خارجية جديدة تقطع مع خصمه اللدود شارل ديغول، وتنأى في الوقت نفسه عن الإمبريالية الأمريكية . لكن لم ينقض وقت طويل حتى بدأ المعلقون الأمريكيون يكتبون بأن اليسار الفرنسي أقرب إلى الولايات المتحدة من اليمين . كان ذلك في عهد الرئيس ريغان الأكثر تشدداً وإمبريالية من بين رؤساء أمريكا حتى ذلك الحين . كذلك كانت علاقة ميتران مع مرغريت تاتشر ومع هلموت كول وهما من اليمين . وفي حين لم يخف ميتران يوماً إعجابه ب إسرائيل وصداقاته مع زعمائها، فإنه أول من انفتح على ياسر عرفات وأسهم في الاعتراف الدولي بمنظمة التحرير رغم معارضة ريغان . في المحصلة وصفت سياسات ميتران الخارجية بالديغولية بامتياز .

مع شيراك كان من الطبيعي أن تسود الديغولية مجدداً ولو بأسلوب متميز . وصف الرجل بصديق العرب فأهانه الإسرائيليون خلال زيارة له إلى القدس في العام ،1996 لكنه لم يخرج عن السياسة الفرنسية التقليدية حيال الصراع العربي - الإسرائيلي ولم يتمكن من دفع التسوية قيد أنملة فبقيت الولايات المتحدة صاحبة القرار في هذا الملف . والأمر نفسه استمر مع ساركوزي المقرب من اليهود والذين جاهروا بتأييدهم له في انتخابات العام ،2007 ومن المؤكد أن هولاند، الذي لا يملك رؤية خاصة به في السياسة الخارجية، سوف يستمر على خطى الأسلاف .

في الأسبوعين المقبلين سوف يتعرف هولاند إلى زعماء كبار لم يسبق له معاشرتهم، لأنه لم يحتل منصباً واحداً في حياته يتيح له مثل هذه الفرصة . في مؤتمري جماعة الثمانية وحلف الأطلسي المقبلين، ستكون إطلالة هولاند الأولى على العالم الخارجي والدرس الأول الذي يتلقاه في السياسة الخارجية، والتي على الأرجح لن تعرف تغيراً ملحوظاً في عهده . فالسياسة الخارجية الفرنسية لا يصنعها رئيس ولا وزير أو رئيس وزراء مهما علا شأنهم، إنها صنيعة مؤسسات عريقة وتقليد راسخ ووفاق وطني يتخطى الأشخاص والأحزاب .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"