"الشخصانية"

04:51 صباحا
قراءة 4 دقائق
د .مصطفى الفقي
إن علاقة الفرد بالجماعة البشرية التي يعيش فيها وينتمي إليها علاقة حاكمة لمستقبل تلك الجماعة تتأثر بها الشعوب وتتحدد معها مسارات الأمم في مستقبلها، إذ إن طغيان دور الفرد أمر غير صحي، كما أن سحقه تحت أقدام الجماعة هو ظاهرة مرضية أيضًا، فالمجتمعات السوية هي التي يتوازن فيها دور الفرد مع الجماعة، وتتحدد بذلك العلاقة بين العام والخاص أو بين "الموضوعية" و"الشخصنة"، دعنا نناقش ذلك في النقاط الآتية:
أولاً: إن الذي يتابع المشهد في الوطن العربي عموماً وفي مصر خصوصاً يدرك أن جزءًا كبيرًا من مواقفنا وقراراتنا يحكمه الهوى وتفوح منه رائحة "الشخصنة"، حيث تغيب الأحكام الصحيحة على الأمور وتختفي "الموضوعية" من الساحة تقريباً، ومازلت أتذكر ما قلته منذ سنوات في تشخيص الحالة المصرية في العامين الأخيرين لحكم الرئيس الأسبق مبارك عندما تردد الحديث وقتها حول "من يخلف الرئيس" في ظل تصوراتِ غامضة حول مسألة "التوريث" لقد قلت وقتها في توصيف الوضع العام "يبدو أن هناك من يعتقد أن رئيس مصر القادم سوف يأتي بمباركة "أمريكية" وقبولٍ "إسرائيلي" وكنت بذلك أقوم بعملية تشخيصٍ لما يدور حولنا، ولكن الدنيا قامت يومها ولم تقعد فاتهمني الأستاذ محمد حسنين هيكل أن قولي ذلك يصدر عن معلومات ومعرفة غير متوفرين للآخرين، واضطررت حينذاك لشرح وجهة نظري في ضرورة التفرقة بين المشهد والرأي، بين وصف الحالة واتخاذ موقف، تذكرت ذلك وأنا أشاهد أحد كتابنا المرموقين يتندر على حلقةٍ وثائقية لبرنامج تلفزيوني كانت تغطي دراسة تاريخية عن "الإخوان المسلمين"، فالرجل لا يفرق بين "موضوعية" السرد وإبداء الرأي فإذا اختلفت معه في وجهة النظر فأنت طرف آخر في معركة وهمية ولكن الأجدى دائمًا هو أن نعتصم بالموضوعية في التحليل بينما نحن أحرار في الاستنتاج .
وفي ظني أن اختفاء المعرفة بمناهج البحث وطرائق التفكير هو الذي أدى بنا إلى هذه الحالة من الخلط بين الرؤية التحليلية البحتة في جانب والنظرة الذاتية في جانب آخر، ولن تستقيم أمورنا على الساحات الفكرية والثقافية بل والسياسية إلا إذا استقام العقل واختفت "الشخصانية" وحلت "الموضوعية" و"الحياد الأكاديمي" بديلاً لحالة العبث التي تسيطر على عقولنا .
* ثانياً: يعتبر المنهج العلمي هو أقصر الطرق وأكثرها رشدًا لبلوغ الأهداف وتحقيق الغايات والوصول إلى الحقيقة، ولعل تنقية العقل العربي من شوائب عصور الانحطاط والحقب الظلامية في تاريخنا القومي هي المبادرة المطلوبة التي يجب أن نسعى لطرحها في هذه الظروف الصعبة التي نمر بها حيث تسود في أرجاء الأمة سحب سوداء تغلف الأجواء وتدعو إلى القلق على مستقبل المكان والإنسان وتبدو غير مسبوقة في هذا الزمان .
إذ أن هناك حالة ارتدادٍ واضحة في القيم الأخلاقية وحالة انتهاكٍ فاضحة في حقوق الإنسان مع عودةٍ ملحوظة إلى أسوأ فترات العصور الوسطى وأكثرها دموية، إن ذلك كله يدعونا إلى إعمال الفكر واحترام العقل والمضي في طريق العصرنة وتحديث الرؤى والأفكار والآراء وإعطاء الجانب الشخصي في حياتنا ما يستحقه فقط حتى لا يطغى على الشأن العام والمصلحة العليا، لأن محاولة إلباس الدوافع الذاتية ثوباً عاماً هي نوع من الخداع الذي لم يعد له مجال في مستقبل حياتنا، كما أن الصوت العالي لا يعني بالضرورة سلامة الرأي ولا حسن القصد، فالعبرة دائمًا في من يدرك أهمية التجرد في المواقف التي تحتاج من كل عربي أن يرتفع إلى مستوى المسؤولية وأن يكون مواطناً واعياً بما يدور حوله مدركاً لقيمة ما نسعى إليه، لأننا كلما نظرنا إلى أجيالنا القادمة فإننا ندرك على الفور عظم المسؤولية التي نتحملها أمامهم في المستقبل، إن الدماء التي تسيل والأحزان التي تسود والمخاوف التي تسيطر هي عوامل معطلة لحركة التقدم ودورة الانتصار للعقل وإعلاء المصلحة العليا على الدوافع الشخصية والنوازع الذاتية .
ثالثاً: لاتقف العلاقة بين الفرد والجماعة لمجرد انتهاج أسلوب علمي في التفكير الرشيد، ولكنها تتجاوز ذلك لتعكس حالة مكشوفة من تضارب المصالح الذي نشهده فيما يبدو على السطح من خلافاتٍ وحواراتٍ ومواجهات، فالناس في عصرنا الحالي يتعاملون من منطلقات مصلحية وليست أخلاقية أو حتى عاطفية، ولاشك أن حالة التردي التي شاعت في السنوات الأخيرة لم تأت لأن حاجز الخوف قد سقط بعد الثورة فذلك تطورٌ إيجابي، ولكن الذي حدث هو أن حاجز "الاحترام" قد سقط هو الآخر وذلك هو مصدر البلاء، فما أكثر الشعارات المرفوعة والتصريحات البراقة، ولكنها تخفي وراءها حالةً من الشره الشديد والنهم الواضح لمصالح فردية كامنة فلا يعنيها صالح عام بقدر ما يعنيها تحقق الأهداف الشخصية والوصول إلى الغايات الذاتية، إن جوهر المشكلة يكمن في ضعف الولاء واهتزاز الانتماء والرغبة في اقتناص الفرص وانتهاز اللحظة ولو جاءت على حساب المبادئ والقيم بل والتقاليد، إنني لا أقول ذلك من فرط التشاؤم ولكنني أقوله من فرط الرغبة في إحداث توازن بين حاجات الفرد ومصلحة الجماعة البشرية التي تسعى في النهاية إلى تحقيق الذات وفرض السيطرة وإعلاء دور الفرد مهما كانت التكاليف وفي غمار ذلك تضيع الحقيقة وتطل الشخصنة من وراء ستار وهو داء نحلم باستئصاله حتى يبرأ المجتمع من أخطر أمراضه، وبالمناسبة فنحن لا نشكك في أهمية "الحافز الشخصي" وضرورة احترام المصالح العليا للبلاد والتوقف عن تنفيذ أجندات خاصة التي لا ننكر وجودها، ولكننا نأمل ترشيدها حتى تستقيم الأوضاع ويبدأ الوطن المكبَّل بالتآمر والمحاط بالاستهداف في الانطلاق من جديد .
. . إن "الشخصانية" مرض اجتماعي مزمن، وداء عضال، يحتاج منا جميعاً إلى مواجهة حاسمة حتى يتغلب العام على الخاص وتندفع الجماعة المصرية نحو غايتها الوطنية!
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"