إنصاف التاريخ

04:54 صباحا
قراءة 4 دقائق
راق لي تعريفٌ متميز لمفهوم الثقافة حددها بأنها "الوعي بالتاريخ"، ففي ظني أن من لم يقرأ التاريخ ويتعلم من دروسه لا يعيش حاضره ولن يخترق مستقبله، فالتاريخ هو الوعاء المستمر الذي ننهل منه الطاقة المتجددة التي تعين على فهم الحياة وإدراك التطور واتساع أفق المعرفة بمعناها الرحب، فمن لم يدرس التاريخ يبدو لقيطاً بلا ماضٍ، تائهاً بلا حاضر، غائباً من دون مستقبل، إن "مصر" صاحبة الحضارة الأولى التي ألهمت غيرها وسلمت الشعلة لمن تواكبوا على أرضها وامتزجوا بتراثها من "يونان" و"رومان" و"عرب" فامتزجت لديها الثقافات وانصهرت الحضارات حتى تألَّقت "الكنانة" كالدرة الفريدة برغم كل معاناتها عبر مراحل التاريخ وجراحها في عصوره المختلفة . والذي يهمني في هذا المقام هو أن أحدد الأطر التي تأسس عليها تقييم بعض زعاماتنا في العصر الحديث وأطرح لذلك عدداً من النماذج بعضها من المحظوظين في ميادين التاريخ والبعض الآخر من المظاليم في حواري الزمان، دعنا نتأمل الزعامات التالية:
أولاً: إن محمد علي واضع اللبنات الأولى لمصر الحديثة كان حاكماً مستبداً وقاسياً وتلميذاً نجيباً لميكافيلي في كتابه "الأمير" رغم أنه كان أمياً في بداية حياته ويكفي أن نتذكر "مذبحة القلعة" كنموذج لجريمة تاريخية من أجل الانفراد بالسلطة .
ثانياً: إن الخديوي إسماعيل "المفترى عليه" وفقاً لعنوان الكتاب الشهير الذي صدر عنه لم يكن متوازناً في إدراكه لإمكانات "مصر" المادية ومع ذلك أدت شطحاته إلى قفزة كبيرة لمصر على طريق المدنية والتحديث، إلا أننا نظن أن إسماعيل باشا يبقى رغم ذلك نقطة ضوءٍ في منتصف القرن التاسع عشر .
ثالثاً: إن عرابي هو بلاشك أول تجسيد للصوت الوطني للفلاح المصري، كما أن تمرده على الخديوي توفيق كان نقلة نوعية في المواجهة بين العنصر المصري الأصيل والحكام الوافدين، ومع ذلك كان المصريون يبصقون على عرابي في المقاهي بعد عودته من المنفى ويتهمونه بأنه سبب دخول الاحتلال البريطاني! ولعلنا نتذكر قصيدة "شوقي" الشهيرة في هجائه .
رابعاً: إنني أظن أن مصطفى كامل ذلك المحامي الشاب كان محظوظاً وربما نال من صفحات التاريخ أكثر مما يستحق، ولعلنا نتذكر أنه كان قريباً من "الآستانة" التي منحته لقب "الباشوية" كما أنه كان غير بعيد عن الخديوي عباس حلمي الثاني ولكن "حادثة دنشواي" أعطته الفرصة التاريخية لكي يكون محامي القضية المصرية في "مصر" و"فرنسا"، ولاشك في أن عمره القصير أحدث درجة من التعاطف التاريخي معه حيث فتك به "السل" طاعون ذلك العصر .
خامساً: إن الملك فؤاد رغم جهامته وضعف لغته العربية والذي كان صعلوكاً في بلاط ملوك "أوروبا" سنوات عدة، والذي وافق على أن يعتنق "الكاثوليكية" لكي يكون ملكاً على "مالطا" هو نفسه فؤاد الأول أول رئيس لمجلس إدارة "جامعة القاهرة" والذي نهضت في عصره الجمعيات المتخصصة (التاريخية والجغرافية وغيرها) وقامت المتاحف وبرزت مظاهر الدولة المصرية الحديثة شبه المستقلة، ولعلنا نتذكر هنا كوكبة الأمراء من البيت العلوي الذين أسهموا في المسار النهضوي بمصر من أمثال "عمر طوسون" و"يوسف كمال" و"عباس حليم" وغيرهم .
سادساً: كان الملك فاروق يكره الإنجليز حتى النخاع خصوصاً بعد حادث 4 فبراير 1942 ولكنه كان حاكماً فاسداً أدمن لعب الورق وسهرات الليل، كما كان وطنياً بالمفهوم المجرد للكلمة من دون الغوص في أعماق الشخصية المصرية واستلهام مستقبل أفضل لها، فقد غلب عليه فساده ودمرته حاشيته وغدر به الجميع .
سابعاً: إن محمد نجيب واحد من مظاليم التاريخ المصري وتعسائه، ساقه القدر ليكون على رأس ثورةٍ لم يصنعها فقذفت به المقادير سنوات طويلة محدد الإقامة في فيلا السيدة زينب الوكيل بالمرج، وإن كان اعتباره قد رد له في عصر الرئيس السادات إلا أن الرجل دفع هو وأسرته ثمناً غالياً لدورٍ لم يسع إليه ومواقف لم يصنعها، ومازلت موقناً أن فترة الصراع بينه وبين عبد الناصر عام 1954 هي التي أدت إلى المخاوف التي استبدت بالسودانيين وضربت وحدة "وادي النيل" في مقتل .
ثامناً: إن شعبية عبد الناصر الكاسحة تضعه في المقدمة بين صفحات تاريخنا المعاصر، نعم لقد سبقه سعد زغلول ومصطفى النحاس بشعبية كبيرة ولكن الفارق هو أن شعبية عبد الناصر كانت مقترنة في الوقت ذاته بهيبة السلطة وسطوة الحكم، وتلك معادلة صعبة في نظم الحكومات، ولكن يبقى عبد الناصر هامة قومية عالية فضلاً عن انحيازه للفقراء وحرصه على العدالة الاجتماعية .
تاسعاً: إن أنور السادات في ظني هو رجل الدولة التالي مباشرةً لمحمد علي الكبير فكلاهما امتلك الرؤية لفهم التطورات الإقليمية والمتغيرات الدولية، كما أنني أظن أن حركة التصحيح في 15 مايو1971 هي النسخة السلمية من "مذبحة القلعة" الدموية مع فارق قرن ونصف من الزمان .
عاشراً: كنت أقول دائماً في ظل حكم الرئيس مبارك إن التاريخ سوف يتحدث عن انتصارات عبد الناصر وهزائمه، وعن إنجازات السادات وأخطائه، ولكنه عندما يأتي إلى عصر مبارك فسوف يتحدث عن "الفرص الضائعة" أي تلك القرارات التي لم يتخذها مبارك والإنجازات التي لم يسع لتحقيقها .
. . إنني أقصد بهذه النقاط أن أقوم بعملية تحريض للمفكرين والمثقفين والمؤرخين وأساتذة علم السياسة لكي نعيد قراءة التاريخ المصري من جديد بل والتاريخ الإنساني كله، ولحسن الحظ فإن الأمين العام الجديد للمجلس الأعلى للثقافة هو مؤرخ مرموق لذلك نريد قراءة واعية تضع الأجيال الجديدة أمام الحقائق الصحيحة والروايات الموثقة، نعم لقد كان سعد زغلول زعيم الأمة ولكنه يعترف في مذكراته بأنه أدمن لعب الورق وباع بضعة أفدنة تعويضاً لخسائره، كما أن مصطفى النحاس يعتبر واحداً من أصلب القيادات الوطنية في تاريخنا الحديث، ولم لا نصعد إلى المستوى العالمي فقد كان الملك إدوارد الثامن الذي ترك العرش في غمار قصة رومانسية ليتزوج مطلقة أحبها ولكن ظهرت كتابات جديدة تتحدث أنه كان "عميلاً" للرايخ الثالث وجاسوساً مباشراً لأدولف هتلر! كما أن د .لويس عوض قد اتهم جمال الدين الأفغاني بأنه كان إيراني الأصل عمل في خدمة الاستخبارات البريطانية! كذلك فإن الأمير عبد الإله الذي كان وصياً على عرش العراق كان عميلاً لعبد الناصر، تلك كلها كتاباتٌ جديدة والمطلوب هو تنقية التاريخ من شوائبه سواء كانت أساطير أو أكاذيب أو أهواء شخصية .

د . مصطفى الفقي

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"