لا تظلموا ترامب

04:08 صباحا
قراءة 3 دقائق
عاصم عبد الخالق

آخر ما يمكن أن تفكر فيه مجلة عريقة بحجم ورصانة «فورين أفيرز» الأمريكية أن تدافع عن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أو تبرر سياساته وقراراته المثيرة للجدل التي يتخذها بصورة منفردة. ومع ذلك انتهت دراسة قيمة نشرتها في عددها الأخير إلى خلاصة لا تدينه ولو جزئياً فيما يتعلق بأسلوبه الانفرادي في الحكم، وتجاهله آراء الآخرين، وصدماته المتواصلة مع الشركاء والحلفاء في الداخل والخارج.
الأمثلة على ذلك كثيرة: ألغى اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادي، انسحب من اتفاق باريس للمناخ، انسحب من الاتفاق النووي مع إيران، أشعل حرباً تجارية لا يستثني منها الخصوم والحلفاء على السواء، رفض الانضمام إلى بيان قمة السبعة عندما استضافته كندا في يونيو/حزيران الماضي وأساء إلى رئيس وزرائها، وزعزع أسس التحالف الأمريكي- الأوروبي في إطار منظومة الناتو.
في كل هذه الحالات وغيرها ضرب ترامب برغبات ومصالح الحلفاء عرض الحائط. وبالمثل تجاهل تماماً مواقف المؤسسات الأمريكية التشريعية والتنفيذية.
ترامب يبدو حالة خاصة بالفعل، وأسلوبه الانفرادي أثار في وجهه عاصفة من الانتقادات واتهامات حادة ليس أقلها الديكتاتورية المتأصلة في طبعه. قد يكون هذا صحيحاً ولكنه يبقى تفسيراً ضيقاً لا يتجاوز حدود شخصيته وطباعه دون أن يمتد إلى المحيط الخارجي الأوسع حوله، والبيئة السياسية الداخلية والخارجية التي يتحرك فيها.
هذا بالضبط ما تنبهت إليه «فورين أفيرز» التي توضح دراستها أن المشكلة التي تعيشها أمريكا تتجاوز بكثير شخصية ترامب وسلوكه وطباعه بل تتجاوز النظام الرئاسي الأمريكي كله.
الدراسة التي نشرتها المجلة في عدد سبتمبر- أكتوبر أعدها اثنان من كبار الخبراء السياسيين هما جيمس جولدجير الباحث في مجلس العلاقات الخارجية، وإليزابيث ساندرز أستاذة العلوم السياسية بجامعة جورج تاون. تحمل الدراسة عنواناً معبراً عن مضمونها وهو «رئاسة غير مقيدة». وهذا باختصار ودقة التفسير الحقيقي لأداء ترامب أو غيره من الرؤساء الأمريكيين منذ نهاية الحرب الباردة.
طوال تلك السنوات ظل الدور الرقابي والإشرافي للمؤسسات الدستورية الأمريكية يتآكل. تراجع دور الكونجرس كثيراً في صنع السياسة الخارجية. وبالتزامن تراجع دور المؤسسات الأخرى ولم تعد قادرة على فرض نفس قيودها ورقابتها وإشرافها على الرئيس. ومع الانحسار التدريجي لنفوذ وقوة المؤسسات الدولية بات أي رئيس أمريكي أكثر قوة وحرية في اتخاذ ما يشاء من قرارات بعيداً عن دوائر الرقابة والمتابعة الثلاثية التقليدية وهي المؤسسات الدولية، والكونجرس والمؤسسات الوطنية أو ما يسميه الباحثان البيروقراطية الأمريكية.
يعتبر الباحثان أن تراجع دور الكونجرس هو الأخطر وهو العامل الأكثر حسماً في إطلاق يد الرئيس في صنع السياسة الخارجية منذ نهاية الحرب الباردة. لا يتسع المجال هنا لعرض مظاهر هذا التراجع التي ناقشتها الدراسة بالتفصيل، ولكن نشير سريعاً إلى أسباب تآكل الدور الرقابي للسلطة التشريعية وأهمها نقص الخبرة، والاستقطاب السياسي الحاد، وانقسام الأعضاء على أساس حزبي ومن ثم تصويتهم على هذا الأساس الضيق. هناك أيضاً طبيعة عمل اللجان المعنية في الكونجرس وزيادة عدد أعضائها ومن ثم اتساع رقعة المناقشات على حساب العمق.
بالتوازي مع ذلك ظل دور وزارة الخارجية في صنع القرارات يتراجع لصالح البيت الأبيض الذي بات مهيمناً على هذا الملف من خلال مجلس الأمن القومي. وهو تراجع بدأ قبل مجيء ترامب بكثير. ومع انهيار الاتحاد السوفييتي وانفراد الولايات المتحدة بالهيمنة المطلقة عالمياً كان طبيعياً أن يولي رؤساؤها اهتماماً أقل لحشد الحلفاء في الخارج، والتشاور الوثيق مع المؤسسات العالمية. وهكذا اتخذت واشنطن قرارات خطيرة مثل غزو العراق أو حرب كوسوفو دون الحاجة إلى موافقة مجلس الأمن.
كل تلك المستجدات حررت الرئيس الأمريكي من القيود. وترامب لا يفعل سوى التحرك في هذا الفراغ السياسي الذي لم يصنعه، هو فقط يستفيد منه وسيفعل ذلك من سيأتي بعده حتى لو كان بأسلوب أقل شراسة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"