الفساد في دول المنطقة الرمادية

05:07 صباحا
قراءة 3 دقائق
الحسين الزاوي

تزامنت مؤخراً في عاصمتين عربيتين الدعوات السياسية من أجل محاربة الفساد، مع انطلاق الحملات الدعائية المتعلقة بانتخاب أعضاء المجالس النيابية، وعكست مضامين تلك الحملات مقدار الاهتمام الشعبي الذي تحظى به البرامج السياسية الداعية إلى إعادة شيء من الوهج الأخلاقي إلى مؤسسات الدولة الوطنية في كل ما يتصل بتسيير الشأن العام من أجل مواجهة سرطان الفساد الذي يستشري في الكثير من المجتمعات العربية، والذي بات يهدد بشكل كبير وحدة واستقرار الدول. بيد أن هذه الدعوات وعلى الرغم من وجاهة القيم النبيلة التي رفعتها مختلف القوى الوطنية، من أجل تطبيقها في بيروت وبغداد لحماية الشعبين اللبناني والعراقي من جشع وتسلط الفاسدين، إلا أنها طرحت أسئلة في غاية الأهمية بشأن بنية السلطة وطبيعة مؤسسات الحكم في مثل هاتين العاصمتين وفي غيرهما من الدول العربية والإسلامية التي تعاني من هشاشة مزمنة على مستوى مؤسساتها السياسية.
يقول «ماكس فيبر»، أحد المنظرين الكبار لمفهوم الدولة الحديثة، في الترجمة العربية لمحاضرته الموسومة: «السياسة بوصفها حرفة»، ما نصه: «إن الدولة هي الجماعة الإنسانية التي تدّعي داخل أرض محددة (وبنجاح) باحتكار العنف الطبيعي المشروع، علماً أن مفهوم الأرض هو معلم من معالم الدولة. إذ إن ما صار مزية يتميز بها عصرنا الحاضر هو ألا تُمنح التجمعات الأخرى أو الأشخاص الأفراد الحق باستخدام العنف الطبيعي إلا بقدر ما تسمح لهم الدولة بذلك، فالدولة وحدها مصدر «الحق باستعمال العنف». لكننا نلاحظ أن هناك خللاً واضحاً، في دول المنطقة الرمادية، فيما يتعلق بمبدأ احتكار الدولة للعنف الطبيعي الذي يتحدث عنه «فيبر»، نتيجة لانتشار السلاح على نطاق واسع بين الميليشيات والمجموعات المسلحة، بالرغم من مطالبة معظم القوى السياسية الوطنية، بضرورة قيام الدولة بواجباتها في محاربة كل المظاهر الهادفة إلى عسكرة المجتمع.
وفي ظل هذه الوضعيات التي يغيب فيها شرط احتكار الدولة للعنف، تصبح فيها المطالبات الداعية إلى محاربة الفساد نوعاً من الدعاية السياسية الجوفاء، التي من شأنها التأثير سلباً على الاستقرار الهش، وبخاصة عندما يجري توظيف هذه الدعاية من أجل تصفية الحسابات السياسية بين الخصوم السياسيين، لأن حماية الحقوق المادية للشعوب يفترض استئثار الدولة بحقها الحصري في استعمال العنف الشرعي لردع الفاسدين؛ ذلك أن ضعفها يحوّل حضورها المؤسساتي إلى مشهد بروتوكولي فاقد لكل مشروعية سياسية حقيقية على أرض الواقع.
ويمكننا القول في هذا السياق، إن دعوة رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي في وقت سابق من هذه السنة، إلى ثورة من أجل حماية المال العام بعد أن تحوّل الفساد إلى «مافيا»، جاءت لتُبرز مدى صعوبة المهام المتعلقة بمحاربة الفساد في دول لا تمتلك سلطة مركزية قوية قادرة على فرض سلطتها على مختلف المكوّنات السياسية والطائفية في البلاد. والشيء نفسه يمكن أن يقال بشأن الدعوات التي أطلقتها مؤخراً، بعض الكتل السياسية اللبنانية التي تقول إنها ستعمل في المرحلة المقبلة على مواجهة مظاهر الفساد وهدر المال العام على مستوى الأجهزة التنفيذية لمواجهة مخاطر تفكك الدولة اللبنانية.
ويصف جان جاك روسو في السياق ذاته مظاهر فساد الحكومات بقوله: «يوجد طريقان عامّان تؤول بهما الحكومة إلى الفساد، ألا وهما عندما تنكمش الحكومة أو عندما تنحل الدولة». فمع فساد النسق العام للحكم، تفقد الدولة هيبتها ويشكّل زوالها التدريجي دعوة مفتوحة لممارسة العنف، لأن غلبة المصالح الخاصة على المصلحة العامة يؤدي إلى تقويض أسس الدول. وبالتالي فإن تفوّق إحدى المصلحتين على حساب الأخرى، يرتبط بطبيعة تكوين الدولة.
وتشير التقارير الدولية إلى أن أفول الدول وتراجع مؤسساتها السيادية يُسهم بشكل لافت في تزايد المناطق الرمادية في العالم لا سيما في الفضاءين العربي والإسلامي، وهناك عوامل سياسية ومجتمعية كثيرة تساعد على بروزها وانتشارها مثل مشكلة اللاجئين والنمو السكاني الهائل ووجود حكومات غير معترف بها أو غير قائمة على تمثيل حقيقي لكل مكونات المجتمع، وتراجع مستوى الخدمات العامة مع اتساع الفوارق التنموية بين مختلف مناطق البلاد، وذلك فضلاً عن النزعات الانفصالية وضعف منظومة حماية حقوق الإنسان، وتراجع كفاءة الأجهزة الأمنية والتدخلات الأجنبية.
وعليه فإن كل مظهر من مظاهر عدم قدرة الدولة على أداء وظائفها الطبيعية وفي مقدمها تفريطها في حقها المشروع في احتكار استخدام العنف المشروع، وفقدانها السيطرة على أجزاء من جغرافيتها الوطنية لصالح تشكيلات سياسية أو عسكرية رديفة، تمثل في مجموعها عوامل حاسمة من شأنها أن تقذف بالكيانات الوطنية في دائرة الخانات الرمادية وتسهم في تحويلها إلى دول فاشلة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"