لتصعد السياسة والمواطنة من أجل التنمية

03:33 صباحا
قراءة 3 دقائق

في الأقطار العربية التي نجحت فيها الثورات الشعبية، مهما اختلف البعض حول مقدار نجاحاتها، التي نقلت تلك الأقطار من نظام سياسي فاسد مستبدّ سابق إلى وضع سياسي جديد واعد بالإمكانات التي ستأتي مستقبلاً بتغييرات مجتمعية وإنسانية كبرى . في هذه الأقطار سنحتاج للعودة المرة تلو المرَة لموضوعي السياسات الاقتصادية وملابساتها الاجتماعية الكارثية خصوصاً أنهما كانا أحد أهم عوامل تفجر الأوضاع .

لقد تبنَت الأنظمة السَابقة اتجاهات اقتصادية اجتماعية خطأ عدة . فهي أولاً احتضنت بصورة تامة كل توجهات وممارسات الليبرالية الجديدة المتوحشة التي هبت رياحها العاصفة منذ بداية ثمانينات القرن الماضي . لقد ركزت اهتمامها على التجارة وتدفق السلع والاستهلاك النهم وعلى حرية حركة الرأسمال الوطني والأجنبي، وانزلقت شيئاً فشيئاً نحو تبني الاقتصاد المالي غير المنضبط المبني على المغامرة والمضاربات الجنونية في العقارات والأسهم بدلاً من تبني الاقتصاد الإنتاجي للسلع الضرورية وللخدمات العامة والاقتصاد المعرفي .

ثم اتبعت ذلك بتنازلها عن مهمتها الأساسية في بناء دولة الرعاية والرفاهية الاجتماعية فخصخصت مؤسسات البنية التحتية من كهرباء وماء ومواصلات وإسكان ومؤسسات الخدمات العامة من صحة وتعليم وتدريب ورياضة، وفي الوقت نفسه أصرت على أن تكون الميزانيات العامًه متقشفة وبذلك تصبح غير قادرة على تقديم خدمات عامة معقولة لعموم المواطنين، وخصوصاً الفقراء والمهمشين منهم .

ومن أجل الحصول على قروض لسد العجز في ميزانياتها خضعت لإملاءات وشروط وابتزاز البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية المتناغمة والمتعاونة مع دوائر النيوليبرالية في عواصم الغرب والشرق، وهي التي بدورها كانت خاضعة لإملاءات وأطماع وجنون مؤسسات المال والاقتصاد الدولية العابرة للقارات الكبرى والمكتسحة للاقتصادات الوطنية .

ولأن تلك الأنظمة العربية كانت فاسدة وطامعة وأنانية أصبحت مع الوقت أداة طيعة منفذة ومشاركة في بناء اقتصاد أدى إلى زيادة هائلة في ثروات الأغنياء وفي فقر وعوز الفقراء وإلى جمود الرواتب وضمور الطبقة الوسطى . وحتى لا تجد من يعارضها في تطبيقها لتلك السياسات أضعفت وهمشت النقابات العمالية والمهنية، بل واخترقت تنظيماتها وأفسدتها .

نحن إذاً أمام صورة بائسة لاقتصاد غير تنموي ودائر في فلك مصالح أقليَة مغامرة جشعة من مالكي الرأسمال . ولذا فإن مهمة أنظمة مابعد الثورات هي قلب تلك الصورة رأساً على عقب، وهي مهمة لن تكون سهلة إلاً إذا رافقتها إرادة سياسية وطنية مستقلة غير خاضعة لابتزاز أمريكا وحلفائها ومؤسساتها الدولية من جهة،وفي الوقت نفسه توفر جهداً عربياً متناغماً مشتركاً لمقاومة الضغوط الدولية وللمساعدة في عودة الجميع نحو اقتصاد عربي إنتاجي معرفي طال انتظاره . وبالطبع فإن ذلك سيتطلب استراتيجيات على المدى الطويل، لكن هناك خطوات يمكن البدء بها على المدى القصير .

* أولاً: عدم الالتحاق بهوس ممنوعات الليبرالية الجديدة

مثل عدم السماح لأي تضخُم أو أي عجز في الميزانيات العامة أو تدخل الدولة لضبط حركة الأسواق والاستثمارات والسياسات النقدية . هناك أمثلة لدول في آسيا وأمريكا الجنوبية رفضت تلك المقولات ونجحت في بناء اقتصاد تنموي لمصلحة عموم المواطنين . القاعدة الأساسية هي أن كل مايؤدي إلى بناء اقتصاد إنتاجي - معرفي وإلى توفر خدمات اجتماعية معقولة لعموم الناس يجب أن يؤخذ من دون تردُد .

* ثانياً: أن يشمل القرار عناصر الإنتاج مثل المؤسسات الحكومية والتشريعية التي تسهم بأشكال كثيرة في توفير البيئة المادية والمعنوية لمالك المال ومثل النقابات ومديري مختلف المؤسسات الذين يشغلون المال، وأشكال من مؤسسات المجتمع المدني المعنية بالدفاع عن الصالح العام .

* ثالثاً: الإصرار على عودة صعود مكانة السياسي في الحياة الاقتصادية، أي مكانة المواطنة بما تعنيه من كفاية معيشية إنسانية لكل مواطن، ورفض لفروق جائرة بين الغني والفقير، ومنع لأي ممارسات مالية أو اقتصادية تؤدي إلى أزمات لايكتوي بنارها في النهاية إلا الفقير الذي لا ناقة له ولا جمل في ساحات جنون المضاربات .

* رابعاً: ألا تكون مرجعية الفكر والسياسات الاقتصادية في يد أدوات التدخل الأمريكي المستتر مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

شغل منصب وزير الصحة ووزير التربية والتعليم سابقاً في البحرين. متخصص في كتابة مقالات في شؤون الصحة والتربية والسياسة والثقافة. وترأس في بداية الألفين مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث. كما أنه عضو لعدد من المنظمات والمؤسسات الفكرية العربية من بينها جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"