فقدان الأمة للمشاعر الإنسانية الطبيعية

01:36 صباحا
قراءة 3 دقائق

في عالم الأديان وفي ممارسات الأخلاق يتم الاعتراف بالذنب من أجل تطهير النفس للخروج من أوحال الرذيلة . أما في السياسة فإن الأمر يختلف . فالاعتراف هنا انتقائي مرتبط بالمصالح والانتهازية وتغير الأحوال والأزمنة . من هذا المنطلق دعنا نحاول فهم اعترافين لدولتين أوروبيتين حدثا في أسبوع واحد .

الرئيس الفرنسي وقف في الدولة الإفريقية، رواندا، ليعتذر عن دعم فرنسا لجماعة من القتلة المجرمين إبان الحرب الأهلية الأخيرة هناك . واعترف بأن ذلك الدعم كان خطأ وقلة فهم . وبدا وكأن الدولة الاستعمارية العتيدة قد دخلت صحوة الضمير وتطهير الذات . لكن المحللين كشفوا القناع، فالذي دفع فرنسا للاعتذار كانت مصالح وصولية بعد أن قررت رواندا استبدال اللغة الفرنسية، كلغة أولى للبلاد، باللغة الإنجليزية، ومن ثم الاعداد لانسلاخ البلد الإفريقي عن النفوذ السياسي والاقتصادي والثقافي الفرنسي والانتقال بالمستعمرة الفرنسية السابقة إلى معسكر الأمريكيين المنافسين .

لكن لنقارن المحاولة تلك، محاولة ممارسة فضيلة الاعتراف بالذنب لأسباب وصولية بحتة، بالرفض الفرنسي القاطع للاعتذار للجمهورية الجزائرية عن تاريخ فرنسا الاستعماري البشع في ذلك البلد وعن مساهمة قواها الأمنية والعسكرية ومستوطنيها الأشرار في موت مليون ونصف المليون شهيد من أبناء الجزائر الأبرياء المدنيين . هكذا تبدو الصورة واضحة: نحن أمام نظام سياسي كاذب في اعترافه، انتقائي بوصولية في صحوة ضميره، قابل للعودة لممارسة نفس الخطايا في المستقبل .

في الجانب الآخر من بحر المانش وقف رئيس الوزراء البريطاني براون ليعتذر لألوف البريطانيين السابقين، الاستراليين حالياً، لارتكاب بريطانيا جرائم ترحيل الألوف من أطفالها اللقطاء واليتامى إلى استراليا وتعريضهم للاغتصاب والمتاجرة بشرفهم وأعراضهم وسقوطهم تحت الاستغلال الاقتصادي والاجتماعي . ولم يحدث ذلك الاعتذار ولم يتم ذلك الاعتراف إلا تحت الضغوط القوية وحملات التشهير المخجلة لبريطانيا والتي مارسها ضحايا موجات الترحيل الذين أرادوا أن يكون الاعتراف والاعتذار مدخلاً لشفاء أنفسهم من الأمراض النفسية والعاهات العاطفية التي أصابت الكثيرين منهم .

لكن لنقارن ذلك بعدم اعتراف بريطانيا وندمها على ارتكاب جريمتها وخداعها اللاأخلاقي عندما أعطت من خلال وعد بلفور الحقير أرضاً غير أرضها لأغراب صهاينة وساهمت في تشريد الملايين من الفلسطينيين وفي موت عشرات الألوف منهم في أفران المذابح الصهيونية عبر سبعين سنة . وإلى اليوم تقف بريطانيا متفرجة على ضحاياها وهم يصارعون بأيديهم وحجارتهم الآلة الحربية البربرية الصهيونية التي ساهمت أمريكا وبريطانيا وفرنسا وكثير من دول الغرب في بنائها وإمدادها الدائم بما يمكنها من تهديد الأرض العربية بأكملها . هكذا تبدو الصورة جلية: نحن أمام نظام سياسي يجزع لشقاء بضعة ألوف من أبنائه السابقين ولكن لا يرف له جفن لرؤية ملايين المشردين ولا لمشاهدته ألوف القبور لضحايا المافيا النازية العنصرية التي مهد السبيل لسرقتها أرض فلسطين . نحن اذن أمام اعتذار وصولي للالتفاف حول مشكلة مزعجة من قبل دولة لم تظهر حتى الآن صحوة الضمير بالنسبة لجريمة العصر التي ارتكبتها .

لكن لنلاحظ في كلتا الحالتين الأنموذج في العمل السياسي الذي أرغم الدولتين الاستعماريتين على الاعتراف وتقديم الاعتذار: في رواندا تهديد المصالح الفرنسية في صميمها، وفي بريطانيا عدم السكوت وممارسة الفضح المستمر للمجرمين وأحفادهم . لنقارن ذلك كله بالعلاقات الفرنسية والبريطانية مع كل دول الوطن العربي . إنها علاقات طبيعية متنامية لصالح اقتصاد ونفوذ البلدين، لا يخدشها حياء وضعف الأنظمة العربية ولا يشير حتى إلى الامتعاض منها، سياحة توني بلير في طول وعرض فلسطين من دون كلمة تذكير أو انتقاد، وتواجد أشكال من الوفود الفرنسية في الجزائر وسائر دول المغرب والمشرق . بل ان الثقافة واللغة الفرنسية يزدادان قوة ورسوخاً وزيارة السياح العرب لشارع أكسفورد في لندن تتضاعف . العرب فقدوا حتى المشاعر الإنسانية الطبيعية تجاه التاريخ والحاضر والمستقبل .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

شغل منصب وزير الصحة ووزير التربية والتعليم سابقاً في البحرين. متخصص في كتابة مقالات في شؤون الصحة والتربية والسياسة والثقافة. وترأس في بداية الألفين مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث. كما أنه عضو لعدد من المنظمات والمؤسسات الفكرية العربية من بينها جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"