انتصار يستحق البناء عليه

03:53 صباحا
قراءة 3 دقائق
محمود الريماوي
نجحت الهبّة الجماهيرية في استعادة المسجد الأقصى وباحته وبواباته، وإبقائه مفتوحاً أمام المصلين بغير بوابات إلكترونية أو كاميرات، ودون تحديد أعمار المصلين. كانت الهبة عفوية تتقدمها سواعد الشبان وصدورهم؛ لكنها استجابت لنداءات القيادة الدينية، التي انطلقت داعية لعدم أداء الصلاة داخل المسجد مع وجود البوابات الإلكترونية. وهو نداء جريء؛ إذ تدعو قيادة دينية لعدم أداء الصلاة في المسجد، وهو ما أدى إلى انتشار عشرات آلاف المصلين في أحياء القدس وممراتها وشوارعها وساحاتها، لقد تحولت المدينة القديمة إلى امتداد للأقصى. وكان على قطعان المستوطنين الابتعاد عن المصلين خشية اندلاع احتكاكات خطرة، خاصة أن المصلين كانوا مفعمين بمشاعر جياشة، وهؤلاء هم من أبناء القدس والبلدات المحيطة بها، ومن أبناء الضفة الغربية، ومن أبناء فلسطين التاريخية وراء الخط الأخضر. وقد التحمت المشاعر الوطنية بالانفعالات الإيمانية، وهو ما زعزع سلطات الاحتلال، التي تخلت أولاً عن البوابات ثم عن الكاميرات ثم عن تحديد أعمار المصلين. القرار بعدم الصلاة، الذي اتخذته القيادات الدينية، وعلى رأسها رئيس مجلس أوقاف القدس عبد العظيم سلهب، ومفتي القدس محمد حسن، شكل رداً حازماً على سلطات الاحتلال بالرفض القاطع لأي سلطة غير إسلامية على مسجد المسلمين.
في هذه الأثناء، جاءت جريمة قيام حارس أمن «إسرائيلي» بقتل مواطنين أردنيين اثنين في العاصمة عمّان، وقيام بنيامين نتنياهو باستقبال القاتل وعناقه، كي تزيد من التهاب المشاعر، وكي تلحق مزيداً من الاهتزاز بموقف «تل أبيب» التي ألحقت إساءتين خطرتين ومتزامنتين بعمّان، الأولى كانت باستباحة المسجد الأقصى رغم الوصاية الأردنية على المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس، والثانية جريمة القتل المزدوجة. وهو ما صلّب الموقف الأردني، ومنحه المزيد من المصداقية، وما أدى في النهاية إلى وقف الاحتلال لإجراءاته الشاذة في القدس، فيما جريمة القتل المزدوجة ما زالت تتفاعل؛ حيث تُصر عمّان على عدم عودة طاقم السفارة الصهيونية، قبل خضوع القاتل لمحاكمة جدية.
مساء الجمعة الماضي، كان المئات في القدس يرفعون على الأكتاف المفتي محمد حسن مهللين مكبّرين. فيما تم تسليط الأضواء الإعلامية على القيادات الدينية التي أدارت المواجهة بشجاعة وحنكة، وفي مبادرة منها لأداء رسالتها في الحفاظ على حرمة الأماكن المقدسة بغير تدنيس. وقد نجحت هذه القيادات في النهوض بدورها كقيادات وطنية مشهود لها، وقد سعت الفصائل إلى اللحاق بمواقف هذه القيادات والتقيد بها، علماً أن الأماكن المقدسة تحظى برعاية اجتماعية من ائتلاف من العائلات المقدسية التي تتوارث مهنة الحفاظ على الأقصى وحراسته والمرابطة به وتأمين حاجاته وهو ما يفسر التكافل الاجتماعي الذي ظهر جلياً بما في ذلك تأمين وجبات الطعام المميز لمئات من الشبان، الذين وفدوا من أماكن قريبة وأخرى بعيدة، وتأمين الإسعاف للمصابين وللمنهكين من كبار السن.
لقد كان من شأن هبة القدس أن أحيت مشاعر قومية ودينية جياشة لدى ملايين العرب والمسلمين، الذين تابعوا فصول المواجهة أولاً بأول من خلال مواقع التواصل الاجتماعي، بما أعاد بعضاً من الوهج لقضية فلسطين، وفي القلب منها القدس ومقدساتها. كما أعادت إحياء الاهتمام الدولي بالأراضي المحتلة، ولوحظ في هذا الصدد ما صرحت به الممثلة العليا للسياسة الخارجية والأمن في الاتحاد الأوروبي، فيديريكا موغيريني، بأن مواقف الاتحاد لم تتغير بما يتعلق بالحالة القانونية للقدس الشرقية، باعتبارها جزءاً لا يتجزأ من الأرض الفلسطينية المحتلة، وبما يتعلق بالوضع التاريخي للمسجد الأقصى.
لعل أركان السلطة الفلسطينية يغتنمون هذه الأجواء ويشدوا الرحال إلى القدس، مثل بقية أبناء شعبهم لأداء الصلاة في الأقصى، فإذا ما أقدمت سلطات الاحتلال على عرقلة وصولهم، فإن شرارة تكون قد انطلقت لهبّة جديدة، نُصرةً للقدس كلها بما يشمل الأماكن المقدسة، وما يتعداها إلى مجمل الوضع في المدينة التي تخضع لتهويد قسري متنامٍ، رغم الرفض الدولي لهذه الإجراءات الشاذة.
لقد انطلقت هبة القدس بصورة عفوية رائعة بغير توجيه من السلطة أو من الفصائل، ومن أوجب الواجبات البناء على ما أنجزته هذه الهبة، من أجل استكمالها نحو تحقيق الغايات الوطنية الأوسع.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"