مهمة فرنسية بضوء أخضر أمريكي

05:21 صباحا
قراءة 4 دقائق
عاصم عبد الخالق

بلا نتائج ولا مفاجآت، وبهدوء بدأت وانتهت جولة لوران فابيوس وزير الخارجية الفرنسي في الشرق الأوسط الأسبوع الماضي. جاء وذهب ولم يقل جديداً، ولم يتوقع منه أحد أن يحمل في جعبته شيئاً قيماً. وكان طبيعياً والأمر كذلك أن تثور تساؤلات عن سبب رحلته، ولماذا تكبد مشقة المجيء إلى منطقة ساخنة بفعل الطقس والحروب والأزمات. هل كانت مجرد رحلة استكشافية أم محاولة متأخرة للبحث عن دور، وإحياء النفوذ الفرنسي المندثر في الشرق الأوسط؟ أم هي محاولة مبكرة لنثر بذور مبادرة جديدة لم يحن الوقت للكشف عنها بعد؟ ربما تكون واحدة من تلك الاحتمالات أو كلها معاً هي التي دفعت فابيوس للمجيء.
المؤكد هنا من واقع التصريحات والبيانات الرسمية أن الهدف المعلن للجولة كان التباحث حول القضية الفلسطينية. وقد أعلن هو ذلك بنفسه، موضحاً أن الهدف الأول لزيارته هو التعرف إلى كيفية المساعدة على إحياء عملية السلام. المعنى نفسه عبرت عنه الخارجية الفرنسية في بيان أصدرته قبيل الجولة، قالت فيه إنها «فرصة لمناقشة المقترحات الفرنسية لاستئناف البحث عن حل للنزاع في أطار دولي ومواكبة إقليمية ووفقا لجدول زمني».
الترجمة السياسية لهذا البيان تتطابق مع مضمون التسريبات والتصريحات غير الرسمية عن قرار دولي جديد تعده باريس يدعو الفلسطينيين و«الإسرائيليين» إلى بدء مفاوضات، قيل إن مدتها ستكون 18 شهراً، برعاية مجموعة عمل تضم القوى الخمسة الكبرى، والجامعة العربية، والاتحاد الأوروبي. أي عوضاً عن اللجنة الرباعية الدولية.
لا يهم الآن البحث عن تفاصيل هذه المبادرة التي لم تطرح رسمياً، الأهم هو معرفة الموقف الأمريكي لأن هذا ما سيحدد في النهاية مصيرها. الأرجح هنا أن التحرك الفرنسي يجري بمعرفة واشنطن والتنسيق معها. وكان فابيوس حريصاً على الإعلان عن ذلك، حيث أبلغ مكتبه الصحفيين أنه تحادث هاتفياً مع نظيرة الأمريكي جون كيري قبل الجولة.
ما يدعونا للاعتقاد بأن التحرك الفرنسي ليس عزفاً منفرداً ولكنه يجري بتنسيق كامل مع واشنطن، هو مجموعة من الشواهد والاستنتاجات وليست تلك المحادثة فقط. من ذلك أن لفرنسا تجربة ممثلة فاشلة لا تريد بالطبع تكرارها، حيث كانت أيدت مشروع قرار فلسطيني مشابهاً إلى مجلس الأمن في ديسمبر/كانون الأول الماضي، إلا أن واشنطن اجهضته على الفور باستخدام الفيتو.
فضلاً عن هذا تعرف فرنسا يقيناً أن ما يسمى بعملية السلام بين «إسرائيل» وأي طرف عربي هي من قضايا الاختصاص الأمريكي الحصري. وليس لباريس أو غيرها القدرة على منافسة واشنطن في هذا الميدان. ولن يكون لها بطبيعة الحال نفوذ يذكر على أطراف النزاع. سبب آخر مهم هو تلك التفاهمات المستقرة تاريخياً بين «الكبار» التي تقسم العالم إلى مناطق نفوذ تقليدية بينهم، وهم يحترمون عادة هذا الاتفاق غير المكتوب.
في ضوء ذلك يصبح من المؤكد أن التحرك الفرنسي يتم برضا واشنطن وبالتنسيق معها، بل ربما يكون نيابة عنها مرحليا ولأسباب تكتيكية. ذلك أن الإدارة الأمريكية وصلت إلى قناعة تامة بأنه من المستحيل تغيير النهج المتطرف لرئيس الوزراء «الإسرائيلي» نتنياهو، وأنه لن يتخذ أي خطوة جادة لتحريك عملية السلام. وبالتالي فإن تصدي فرنسا، وليس الولايات المتحدة، لطرح مشروع قرار دولي يمثل حلاً جيداً للإدارة الأمريكية لأنه سيعفيها من التعرض لضغوط المؤيدين ل«إسرائيل» الذين سيتفجر غضبهم إن أقدمت هي على إجراء من هذا النوع.
وفي الوقت نفس سيحقق المشروع الفرنسي الغرض الأمريكي وهو الضغط على نتنياهو. ويكفي في هذه الحالة أن تمتنع واشنطن عن التصويت من دون استخدام الفيتو، وهكذا يجري تمرير القرار. يعزز من هذا الاحتمال أن أوباما كان ألمح الى إمكانية تخلي واشنطن عن سلاح الفيتو الذي استخدمه دائماً في مجلس الأمن لحماية «إسرائيل»،
يبقى بعد ذلك عنصر الوقت، وهو عامل آخر يؤكد أن ما يجري هو جهد مشترك فرنسي أمريكي تتصدره باريس في هذه المرحلة. ذلك أن الدبلوماسية الأمريكية تبدو مستغرقة تماماً في المباحثات مع إيران وتسابق الزمن للتوصل إلى الاتفاق معها في الموعد المحدد أو بعده بقليل. ولا بأس في هذا الحالة أن تعهد للصديق الفرنسي بمهمة استكشاف الأرض وتمهيدها للخطوة التالية حينما يحين وقتها.
التحرك الفرنسي مفيد أيضاً، لواشنطن لأنه يعطي إيحاء للعرب والفلسطينيين بأن قضيتهم مازالت تشغل المجتمع الدولي رغم بؤر الصراع الأخرى المشتعلة في العراق وسوريا واليمن.
ومن المؤكد أن واشنطن وباريس تدركان أيضا أن الوضع الداخلي الفلسطيني و«الإسرائيلي» لا يسمح بمحادثات أو قرارات مهمة حالياً، حيث عاد الانقسام بين الضفة وغزة وانهارت حكومة الوحدة الوطنية، هذا على الجانب الفلسطيني. أما «إسرائيلياً» فإن الائتلاف الحكومي الجديد الأكثر تطرفاً يبدو من الهشاشة والضعف بحيث يمكن أن ينهار عند أول خلاف حول قضايا المفاوضات الصعبة. وبالطبع فإن نتانياهو لن يخاطر بهذه النتيجة لأن بقاء الحكومة أهم لديه من السلام.
هذا يعنى أن الأمريكيين والفرنسيين (وربما الجميع) ليسوا في عجلة من أمرهم بخصوص تحريك أو استئناف عملية السلام، وهو ما يفسر الإيقاع الهادئ للتحرك الفرنسي، والاستجابة الأمريكية الأكثر هدوءاً. وبمعنى أكثر وضوحاً وأقل دبلوماسية تقبع القضية الفلسطينية في ذيل قائمة الاهتمام الدولي حالياً، وستبقى كذلك إلى أجل غير مسمى.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"