نتنياهو في الكونغرس . . مهرجان انتخابي مشترك

04:54 صباحا
قراءة 4 دقائق
ينبغي التأكيد بداية على أنه مهما بلغت الخلافات وغياب الودي الشخصي بين أوباما ونتنياهو فان العلاقات الاستراتيجية بين البلدين لن تتأثر قط بل أنها ماضية في طريق المزيد من التوثيق والتحالف . وهذا ما أكده نتنياهو، ولو مداورة، عندما امتدح في مقدمة خطابه الخدمات التي قدمها أوباما ل"إسرائيل" سراً وعلانيةً في غير مناسبة وموقف طوال السنوات المنصرمة .
الأمر الثاني الذي ينبغي التذكير به هو أنها ليست المرة الأولى التي يتحدى فيها نتنياهو رئيس الولايات المتحدة، فقد ذهب إلى واشنطن ليخاطب "إيباك" في العام 1997 من دون المرور بالبيت الأبيض وبالرغم من أنف الرئيس كلينتون . وفي عام 2013 خاطب الكونغرس، بالطريقة نفسها التي فعل الأسبوع الماضي، وقوطع يومها بالتصفيق وقوفاً عشرات المرات من قبل أعضاء الكونغرس . تكرر المشهد هذه المرة فبدا نتنياهو وكأنه يخاطب أعضاء من حزبه الذين راحوا يقاطعونه بالتصفيق طويلاً ووقوفاً في كل جملة كان يتلفظ بها: خمس وعشرون مرة في خمس وأربعين دقيقة .
أضاف نتنياهو برهاناً جديداً على تبعية الكونغرس الأمريكي للنفوذ الصهيوني المتمثل بمنظمات كثيرة أبرزها "إيباك" التي ألقى خطاباً أمامها عشية خطابه أمام الكونغرس . فالأثرياء اليهود النافذون في هذه المنظمة وغيرها تابعوا بانتباه شديد الخطاب وتعابير الحضور واحداً واحداً ليعرفوا، على الأقل، في أي اتجاه تذهب استثماراتهم المالية . كان شلدون ادلسون، وهو من كبار ممولي اللوبي الصهيوني، حاضراً بنفسه واعتبر حضوره مشاركة في حملة الجمهوريين ضد أوباما . وإليه نظر نتنياهو عندما قال إنه بينهم "في عائلة واحدة" . حضر النواب الجمهوريون كلهم تقريباً، ولكن حضر أيضاً عشرات الديمقراطيين . فالانتخابات الرئاسية والتشريعية باتت على الأبواب، وكلهم يعرفون مدى تأثير اللوبي الصهيوني في مستقبلهم السياسي . لذلك، فإن التصفيق والوقوف والابتسام إعجاباً بنتنياهو أمام الكاميرات المحتشدة ليست بالثمن الكبير في مقابل المنافع المأمولة .
كما حقق نتنياهو نجاحاً إعلامياً يصعب نكرانه . فقد استفاق الأمريكيون على صوره تملأ صفحات الصحف الأولى ناهيك عن شاشات التلفزة والفضائيات والإنترنت . وتقول استطلاعات الرأي إن نسبة 59 في المئة من الأمريكيين تؤيد وقوفه أمام الكونغرس بالرغم من معارضة الرئيس في مقابل 23 في المئة تعارضه، وهذا نجاح يحسب لماكينة اللوبي الصهيوني الإعلامية التي تواكبه . وبذلك نجح في وضع الاتفاق النووي المزمع مع إيران على رأس الاهتمامات الشعبية . أكثر من ذلك، فإن مراقبين وصحفيين، من مؤيدي الرئيس أوباما، ظهروا في برامج سياسية ليعربوا عن تفهمهم لمواقف نتنياهو وهواجسه المتعلقة بالخطر الإيراني وحتى لمقارنته نفسه مع تشرشل الذي حذر من الخطر النازي، في ثلاثينات القرن المنصرم، قبل أن يتبين أنه كان على حق . وتنافس محللون مناهضون لأوباما في تبيان مكامن ضعفه في السياسة الخارجية وتراخيه حيال سوريا وإيران وكوريا الشمالية و"داعش" وغيرها . وبذلك فإن الجمهوريين بدأوا حملتهم الانتخابية ضد أوباما منذ اللحظة وبطريقة هجومية ومن زاوية أمنية شديدة الحساسية . بطريقة أو بأخرى كان "مثولهم" أمام قائدهم نتنياهو أشبه ما يكون بمهرجان انتخابي .
من جهته نتنياهو حقق هو الآخر الكثير من المآرب الانتخابية .يكفي أنه نجح في رفع التهديد الإيراني إلى سلم الأولويات في حملة انتخابية يعاني فيها الكثير من الصعوبات بسبب إخفاق سياساته الاقتصادية والاجتماعية والفضائح التي تحيط بسلوكه المالي وزوجته سارة . وتقول استطلاعات الرأي إن نسبة تأييده لدى الناخبين "الإسرائيليين" ارتفعت من 42 إلى 44 في المئة بعد الخطاب مباشرة .
على الرغم من كل ذلك لا يقاس نجاح الخطاب، على ما يحلل المراقبون الأمريكيون و"الإسرائيليون" أنفسهم، بعدد المرات التي وقف فيها أعضاء الكونغرس الحاضرون (لم يتغيب منهم سوى خمسون أو ستون وملئت مقاعدهم بالمساعدين) ليصفقوا للخطيب الذي يتقن الإنجليزية باللكنة الأمريكية أفضل من الكثير منهم، ولكن في قدرة هذا الخطاب على التأثير في مجريات المفاوضات الإيرانية الأمريكية، فهذا هدفه المعلن على الأقل . وهنا تبدو الأمور واضحة لا لبس فيها، فالفريق التقني التابع لوزارة الخارجية استمر في التفاوض مع الفريق الإيراني قبل وخلال وبعد الخطاب .
مشكلة الخطاب أنه لم يأت بجديد ولم يقترح بديلاً عن المفاوضات، لا بديلاً عسكرياً ولا سياسياً كمبادرة سياسية إزاء الفلسطينيين تؤسس لتحالف جديد في الشرق الأوسط ضد إيران أو تصور لشرق أوسط جديد أو ما شابه . فقط اتسم بالبكائية والتحذير بصوت عال من التوقيع على اتفاق مهما كان رأي الإدارة الأمريكية فيه بأنه يشكل الطريقة الأفضل لمنع إيران من إنتاج القنبلة النووية . وهنا فإن أوباما يقدم نفسه بأنه الأكثر حرصاً على أمن "إسرائيل" من نتنياهو الساعي وراء مصالح انتخابية شخصية . وهذا الأخير الذي ما انفك، منذ العام ،1996 يحذر من وصول طهران إلى القنبلة في سنوات قليلة معدودة طوراً وسنة واحدة فقط تارةً، بل أشهر، كما قال مرة في الأمم المتحدة، وربما أسابيع، كما حذر في مناسبة أخرى، لم يفعل شيئاً في وقت باتت إيران تمتلك من أجهزة الطرد المركزي عشرين ألفاً بعد أن كانت تمتلك منها المئات القليلة قبل وصول نتنياهو إلى رئاسة الوزراء .
على الأرجح آلا يؤثر خطاب نتنياهو في المفاوضات الإيرانية الأمريكية، وأن يستخدم أوباما حق النقض (الفيتو) ضد الكونغرس، وآلا يستحوذ هذا الأخير على نسبة الثلثين الضرورية من أصواته لتجاوز هذا "الفيتو" . وبالتالي فإن مفاعيل خطاب نتنياهو سوف تذوب مع ذوبان الثلج الذي غطى عتبات مبنى الكابيتول في ذلك اليوم، كما يقول المحللون "الإسرائيليون" الذين يتفقون على أن "الخطاب كان وكأنه لم يكن" .

د .غسان العزي

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"