في الحاجة إلى استراتيجيات ومنهجيات

03:52 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. علي محمد فخرو

إبّان الشهرين الماضيين دُبّجت ألوف المقالات ونشرت ألوف المقابلات بشأن ما يمكن أن تأتي به فترة مابعد وباء الكورونا من تغييرات كبرى في حقول الاقتصاد والسياسة والتوازنات الدولية وصعود هذه الدول وتراجع تلك .. إلخ، من تنبؤات، بعضها متفائل وبعضها الآخر متشائم . بعضها جاء على لسان مفكرين ومحللين جادين، والبعض الآخر جاء على لسان مهرجين من الساسة ومدّعين من رجالات الدين الشعبويين.
وقد لفتت انتباهي ظاهرة تستدعي إبرازها لأنها مرتبطة أشد الارتباط بمدى ونوع وعمق تلك التنبؤات المنتظر حدوثها كنتيجة أو كردّ فعل لما جاءت به موجة وباء الكورونا من كوارث ولما آلت إليه من وعي جديد.
فأولاً، ستحتاج تلك التغيرات لتصبح جزءاً من الواقع المستقبلي، على المستويات الوطنية أو الإقليمية أو الدولية، لقيادات تحدد الأهداف وتضع الاستراتيجيات وتجيش الناس وتنظم صفوفهم. فما ستكون عليه تلك القيادات من تكوين عقائدي أو إيديولوجي، ومن أية طبقة أوجماعة مجتمعية ستنبثق، وإلى أي مدى سينصهر فيها ويكون لحمتها النضالية ضحايا وباء الكورونا من الملايين العاطلين الجدد منهم والقدامى والفقراء المهمشين؟
وثانياً، هل ستنبثق تلك القيادات ومناصريها من الأحزاب والمؤسسات المدنية القديمة، وهي المثقلة بمثالب وعجوزات تاريخية، أم ستولد من رحم الكارثة التي نعيشها، أحزاب ومؤسسات مدنية جديدة، بفكر جديد وشعارات إيديولوجية شمولية ملائمة للحالة النفسية الشعبية الغاضبة والمصرة على تغيير وجهة سيرورة التاريخ، حاضره ومستقبله؟
وثالثاً، من هي القوى التي ستعارض تلك التغيرات ، فكراً وممارسة ووجوهاً جديدة ، وبأية وسائل ستتصدى لقادتها وجماهيرها وشعاراتها؟ وما مقدار نسبة إمكانية نجاحها في إزاحة الجديد ليعود ويحل محله القديم بوعوده الكاذبة المعروفة وبما يتبقى لدى الحرس القديم من إمكانيات مالية وسياسية وأمنية استخباراتية وإعلامية هائلة؟ ثم، ماذا عن الامبراطوريات الرأسمالية العولمية الصاعدة، والتي ستسمنها فيروسة الكورونا، امبراطوريات شبكات التواصل الاجتماعي والتجاري الإلكتروني والفتوحات الروبوتية الواعدة وفضاءات الذكاء الاصطناعي المرعبة؟مع من ستقف تلك الإمبراطوريات التي ستخرج وهي أقوى وأغنى عما كانت عليه من قبل، والتي رضعت من ثدي الرأسمالية النيوليبرالية العولمية وتربت في أحضانها؟
ورابعاً، ماهي الشعارات والعناوين الكبرى لتلك الحركة المستقبلية المنشودة التي يجب أن تكون في قلب وروح تلك الحركة، ولا يجب أن يتخلى عنها أحد قط؟ ماذا ، مثلاً، عن تبني عنوان الديمقراطية السياسية والاقتصادية العادلة من أجل أنسنة الجانب الرأسمالي إن وجد وترسيخ وتعميق الجانب الاشتراكي الذي يجب أن يوجد؟ هل هذا خروج على بلادة الإصرار على اختيار البشرية لوناً إيديولوجياً واحداً تلبسه؟
أليس الأهم هو التركيز على المحتوى وليس الشكل والاسم؟ وأخيراً، ستبقى نقطة هي بالطبع ستكون في عالم الغيب ، ولكن تحتاج إلى أن تطرح للتساؤل والمعالجة، وهي المتعلقة بدروس التاريخ بشأن ميل البشر إلى النسيان السريع لما يصيبهم من الكوارث، وميلهم إلى تفضيلهم لحياة اللامبالاة والانكفاء على عالم الذّات الأنانية. وبمعنى آخر : هل ستتعلم هذه المرة جموع الملايين التي عانت البطالة والجوع وفراق الأحباب بسبب وباء الكورونا الدرس وتحمل على أكتافها قدرها وتقبض على مصير حياتها بيدها، وذلك بدلاً من تركه بيد هذه الجماعة أو تلك، أو هذا القائد أو ذاك؟ في أغلب قراءاتي واستماعي للذين نادوا أو حلموا بعالم أفضل، بعد انقشاع غيوم الوباء وعواصفه ، وخصوصاً ويلاته الاقتصادية والمعيشية ، لم أجد معالجة واضحة عميقة وشاملة لتلك الجوانب والتساؤلات التي ذكرتها . وهكذا خالجني شعور بأنهم تعاملوا مع التغيرات الكبرى المطلوبة وكأنها هدية بابا نويل للأطفال أثناء أعياد الميلاد.
الآية القرآنية الكريمة المعبّرة عن (إن اللّه لايغيّر مابقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم) تعبّر أفضل تعبير عما ذكرناه.
بدون استراتيجيات ومنهجيات وقوى واضحة ومنتقاة بعناية ، ستبقى التغييرات الكبرى في خانة أحلام اليقظة لا أكثر ولا أقل.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

شغل منصب وزير الصحة ووزير التربية والتعليم سابقاً في البحرين. متخصص في كتابة مقالات في شؤون الصحة والتربية والسياسة والثقافة. وترأس في بداية الألفين مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث. كما أنه عضو لعدد من المنظمات والمؤسسات الفكرية العربية من بينها جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"