انحياز لرذيلة العنصرية

04:20 صباحا
قراءة 4 دقائق

حسن العديني
تعتري المرء المرارات حين يكتشف أنه أساء تقدير الناس، فرأى سوء الطوية وضآلة القيمة عند بشر ظن أن فيهم الكثير من النبل والكرامة والشجاعة. وبالضد فإن الارتياح يداخل النفس عندما يتبين للإنسان قصوره في تقييم رجال اعتبرهم متمرغين في وحل الانتهازية، فإذا هم في أدق الظروف وأصعب المواقف، مثالاً لسمو النفس واستقامة الضمير.
في الحياة نماذج بلا حصر من هذا الطراز
الذي يكشف عن أصالة المعدن وعلى البون الشاسع بين هشاشة الفحم وصلابة الألماس. ولأن تقرير ريما خلف المديرة التنفيذية لمنظمة «الإسكوا» واستقالتها هما الباعث لهذا الحديث. فقد نتذكر الطراز الأصيل في شخصية بطرس غالي العارف بعلم السياسة والعلاقات الدولية، أستاذاً ومفكراً، والمشتغل فيهما وزيراً في بلاده، وموظفاً أممياً خاض معركة جعلته الوحيد، حتى الآن، بين الأمناء العامين للأمم المتحدة يخسر التجديد في منصبه بقرار أمريكي عقاباً على قوله الحق في وجه العدوانية «الإسرائيلية».
لقد أطاح به التقرير الذي أشرف عليه عن مجزرة قانا موثقاً ومدعماً بالحقائق والوقائع، لأنه أغضب «إسرائيل» والولايات المتحدة الراعية والداعمة للكيان الصغير المتوحش في الشرق الأوسط.
لم يُعد بطرس غالي تقرير المنظمة الدولية بفورة دم عربي منحازاً لأشقائه في لبنان ولا بعداء للسامية يلصقها الصهاينة على كل من يستقبح أعمالهم المشينة، وهو بالذات يدحض هذا الادعاء في حياته الشخصية والعائلية بزواجه من امرأة يهودية، لكنه على أي حال تصرف من واقع مسؤوليته في الانتصار للقانون الدولي والقيم الإنسانية، ثم كإنسان لا ينظر إلى ألوان الناس ودياناتهم وأعراقهم وإنما عمل بوحي من ضميره، بعد أن رأى الجريمة وصناعها فيما أرادت «إسرائيل» منه أن يفتش عن كائنات هبطت من المريخ وقصفت قانا.
وكان غالي قبل ذلك الموقف المستقيم مع العقل والضمير، محل إشارة لا تضعه في المقام الوطني العالي، على رغم تقدير قيمته العلمية وقامته. انبعثت تلك الإشارات من قبوله منصب الوزير في نظام الرئيس أنور السادات، وملاحظة أن المنصب لا يضيف له شيئاً ذا بال أمام ما حققه في حقل العلم والمعرفة، كأستاذ ورئيس قسم العلوم السياسية في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، ورئيساً لمجلة السياسة الدولية الصادرة عن مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية، وأبعد من الولع بالمنصب الحكومي أنه كتب مشروع خطاب للرئيس السادات، كي يلقيه أمام الكنيست «الإسرائيلي» في زيارته المشؤومة، نوفمبر 1977، وهو الخطاب الذي أهمله السادات وقرأ خطاباً آخر أعده رئيس تحرير «الأخبار» آنذاك موسى صبري. ذلك رواه بطرس غالي في كتابه «طريق مصر إلى القدس».
وفي الأحوال كلها كان غالي يحفظ للمنصب الأممي مكانه العالي واستقلاليته المهابة والمسؤولة عن حماية السلام والأمن الدوليين، وعن رعاية حق الشعوب في تقرير مصيرها. ولقد مثلت مسيرته
استمراراً أميناً للأفذاذ الأوائل من الدانمركي «تريجفي لي» حتى «كورت فالدهايم» الذي شنت ضده «إسرائيل» حرباً إعلامية ضروساً يوم ترشح لرئاسة بلده النمسا واتهمته بالنازية مستشهدة بدليل ساذج هي صورته في لباس الجندية مفروض ارتداؤه على الملزمين بأداء خدمة العلم. ومن قبله «داغ همرشولد» الذي دفع حياته وهو يحاول علاج مأساة الكونغو في 1961، ثم الراهب البوذي «يوثانت» المنحاز بقوة لمبادئ الحق والعدل والمتعاطف مع القضايا العربية.
قبالة هذه النماذج وبالقياس عليها تأتي الصدمة من الأمين العام الحالي «انطونيو غوتيريس» الذي افتتح عهده بفضيحة مدوية. وقد كان مجيئه إلى رأس المنظمة الدولية موضع ترحيب وتفاؤل من واقع أنه قدم من ميدان سياسي، يعلي من شأن الكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية، ذلك أنه بدأ حياته السياسية في الحزب الاشتراكي بالبرتغال، وصعد في سلمه الهرمي حتى شغل موقع الرجل الأول ومنه إلى رئاسة الحكومة، ثم إلى الوظيفة الدولية مساعداً لأمين عام الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية. وبالمعنى فإنه بالخلفية السياسية ينتمي للاشتراكية الدولية التي أسسها عمالقة الفكر الاشتراكي في أوروبا في القرن التاسع عشر أولئك الذين نذروا حياتهم لإسعاد الإنسانية، وبالوظيفة الأممية، فقد كان معنياً بحق الإنسان في أن يعيش حراً كريماً آمناً على حياته في اليوم والغد. لكنه ولأشد الأسف تخلى عن إرث المدرسة السياسية التي جاء منها، وعن الوظيفة التي شغلها وعن الدم البرتغالي الحار وعن شيء في الذاكرة تركه العرب في الأندلس عصر استقرت شبه جزيرة إيبيريا ملاذاً آمناً لذوي الديانات المختلفة، قبل أن يستبد القشتاليون باليهود والمسلمين ويلقمونهم الموت، بل لقد تخلى عن نقطة في دمه تسربت من عبد الرحمن الداخل. وكذلك طلب من رئيسة الإسكوا «ريما خلف» أن تسحب تقريرها الموثق عن نظام الفصل العنصري في «إسرائيل». وريما لم تكن سوى المثال الناصع للكرامة والتحدي فقد وضعت ضميرها في المكان الأعلى على تفاهة المال والجاه والمنصب واختارت الحقيقة وحدها والصدق كله، بينما انحاز رئيسها لرذيلة الفصل العنصري، ليحافظ على راتبه وامتيازاته، ملقياً وراء ظهره بمبادئ ادعاها، وقيماً خلعها على نفسه. لقد بدا في موقفه أضأل من قامته القصيرة، بينما اعتلت ريما منصة التاريخ، وحفرت اسمها في ذاكرة الإنسانية براقاً ومشرقاً.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"