فرنسا تنجو من التطرف

02:53 صباحا
قراءة 4 دقائق
د.غسان العزي
كثيراً ما أخطأت معاهد استطلاع الرأي في توقعاتها، وهناك سلسلة طويلة من الإخفاقات في هذا المجال منذ عقود طويلة، وعلى مستوى العالم أجمع. آخر هذه الإخفاقات كان حول «البريكسيت» والانتخابات الرئاسية الأمريكية التي لم يتوقع معهد أمريكي واحد فوز دونالد ترامب فيها.
لكن الدورة الأولى من الانتخابات الرئاسية الفرنسية جاءت نتيجتها لتعيد المصداقية إلى مؤسسات استطلاع الرأي، بحيث أتت النتائج مطابقة إلى حد كبير لما توقعته خلال الحملة الانتخابية. كما أن نسبة المشاركة في هذا الاقتراع والتي تخطت ٧٨٪، جاءت مماثلة لما كانت عليه على الدوام، ما يعني أن العملية الارهابية في الشانزليزيه لم تخف الناخبين.
فاز ايمانويل ماكرون بالمركز الأول، تليه مارين لوبان، اللذان بذلك سوف يتنافسان على المقعد الرئاسي في الدورة الثانية في السابع من مايو/أيار المقبل. ومنذ اللحظة تتوقع هذه المؤسسات المتخصصة بدراسة الرأي العام فوز ماكرون بهامش واسع جداً (٦٢٪) ضد مرشحة اليمين المتطرف (٣٨٪).
وفي الحقيقة لا حاجة لمؤسسات استطلاع الرأي لمعرفة نتائج الدورة الثانية، إذ تكفي عملية حسابية بسيطة منذ اللحظة للتوصل إلى النتيجة. فقد أعلن مرشحا الحزبين الأساسيين التقليديين، الاشتراكي هامون، واليميني فيون، تأييدهما لماكرون في الدورة الثانية. هذا الأخير يحظى منذ البداية بدعم زعيم حزب الوسط فرانسوا بايرو، وكل أقطاب الوسط وتلويناته، إضافة إلى أنصار البيئة. ثم إن أكثر من ستين في المئة من مؤيدي زعيم يسار اليسار جان لوك ميلانشون، الذي حل رابعاً مع حوالي العشرين في المئة من الأصوات، سوف يعطون أصواتهم لماكرون. ماذا يتبقى لمارين لوبان؟ الهزيمة في الدورة الثانية بكل تأكيد، والأمر بات مؤكداً منذ اللحظة، ولا مكان للمفاجآت على طريقة كلينتون - ترامب، فالبلدان يختلفان جذرياً من حيث النظامين السياسي والانتخابي، فضلاً عن الخريطة الحزبية.
إذاً، إيمانويل ماكرون هو الرئيس المقبل لفرنسا، ماذا يعني ذلك؟
أولاً، أن المشهد السياسي الفرنسي القائم انفجر عملياً، فللمرة الأولى في تاريخ الجمهورية الخامسة لا يصل اليمين الديغولي إلى الدورة الثانية من انتخابات رئاسية، وللمرة الأولى منذ العام ١٩٦٩ يصاب الحزب الاشتراكي بمثل هذه الهزيمة الماحقة. والأرجح أن تقود هذه الانتخابات إلى نهاية الحزب، وهو ما بدا واضحاً خلال الحملة الانتخابية، إذ إن عدداً كبيراً من قياداته، بمن فيهم رئيس الوزراء السابق فالس، وحتى الرئيس هولاند نفسه، تخلوا عن مرشح الحزب بنوا هامون لمصلحة ماكرون، فوصل المسكين إلى المركز الخامس بحوالي الستة في المئة من الأصوات وأقل ما يقال في الأمر أنه هزيمة نكراء سوف يصعب على الحزب تخطيها.
الأمر الثاني الذي كشفته هذه الانتخابات، أن التطرف لن يصل إلى السلطة في فرنسا. فاليمين المتطرف الذي يعرف صعوداً عامّاً في الغرب والذي بات في فرنسا متقدماً حتى على الحزبين الكبيرين التقليديين اللذين يتناوبان على الحكم في فرنسا، لن يصل إلى رئاسة الجمهورية. وقد توقع كثيرون أن تحقق لوبان اكتساحاً في الانتخابات غداة الهجوم الإرهابي في جادة الشانزليزيه، لاسيما وأنها تحمل لواء محاربة الإرهاب وحماية الأراضي الفرنسية من الغرباء، وتحديداً المسلمين، والعرب منهم، لكن هذه التوقعات أخفقت ولم تصل لوبان إلى المركز الأول الذي احتله ماكرون الذي لطالما اتهمته لوبان بالميوعة، والغموض، والافتقاد إلى مشروع واضح في مواجهة الإرهاب.
ولم يصل حزب اليسار المتطرف بزعامة ميلانشون إلى الدورة الثانية رغم الرقم المرتفع الذي حققه والذي يشكل مفاجأة حقيقية، خاصة أنه في كل الانتخابات السابقة، الرئاسية وغيرها، بقي ضمن الأحزاب الهامشية دون العشرة في المئة. أما لوبان فقد أكدت نتيجة الانتخابات أن شعبيتها لا تزال ثابتة من دون تقدم، أو تراجع، وهي ليست كافية للوصول إلى الإليزيه. ثم أن كل الأحزاب الأخرى، اليمينية منها واليسارية والبيئية، سارعت إلى الإعلان أنها لن تسمح لليمين المتطرف بالوصول إلى الإليزيه.
برهن الفرنسيون أنهم ضد التطرف، إذ إن كل العمليات الإرهابية التي ضربت فرنسا حتى الآن فشلت في استيلاد رد فعل جماهيري لمصلحة التطرف. كما برهنوا أيضاً أنهم لا يحبذون الخروج من أوروبا، فصوتوا لمصلحة من وعدهم بالاستمرار في البناء الأوروبي، والعمل على إصلاحه بدل مغادرته. لن يكون هناك فرنسكسيت،على غرار البريكسيت.
نجت فرنسا من التطرف. لكن المعركة لم تنته، فالانتخابات التشريعية المقبلة في مايو/ أيار ستكون الأصعب، لأن من سيصبح رئيساً، الأصغر سناً في تاريخ الجمهورية (٣٩ عاماً) الذي لم يخض أية انتخابات في السابق، يفتقد إلى الخبرة والتجربة السياسيتين، وبالتالي سيكون عليه العمل في وقت قصير جداً على بناء أغلبية برلمانية حتى لا يجد نفسه وحيداً في الإليزيه عاجزاً عن الحكم والقيادة. والرجل لا يحمل برنامج حكم مميزاً، ولا شيء عملياً يشي بأنه سيكون رئيساً يتميز عن سابقيه، رغم وعوده بتغيير كل السيستم القائم الذي ولد من رحمه، وبفضله وصل إلى ما هو عليه.
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"