البحث عن مؤامرة

01:57 صباحا
قراءة 3 دقائق
عاصم عبد الخالق

مع كل حدث جلل تولد «قصة أخرى» تختلف عن الرواية الرسمية، وتقدم تفسيرها، أو تكذيبها، أو رؤيتها المغايرة. ومهما يكن السرد الرسمي مقنعاً، ولا يثير الشكوك، تحتفظ رواية الظل بجاذبيتها، وتغوي كثيرين لا يستطيعون مقاومتها، ويصرون على أن الحقيقية هي شيء آخر غير ما يشاع.
ومن الطبيعي ألا يستثني أنصار نظرية المؤامرة جائحة كورونا من منظومة الشك، والتكذيب. ومنذ بدايتها رأوا فيها جريمة مكتملة الأركان يجري تنفيذها بفعل فاعل مع سبق الإصرار، والترصد. بعضهم اعتبر أن أمريكا هي الفاعل، وهو اتهام لقي رواجاً كبيراً بعد أن تبناه دبلوماسيون وإعلاميون صينيون.
في المقابل، هناك اتهامات للصين نفسها، وأخرى لشركات الأدوية الكبرى باعتبارها المستفيد الأول من بيع المستلزمات الطبية، حتى منظمة الصحة العالمية لم تسلم من الاتهام. وقبل أسبوع شهدت بعض المدن البريطانية حرائق في أبراج لشبكات اتصالات الجيل الخامس. ونشرت الصحف تقارير أفادت بأن الحرائق متعمدة لأن هناك من يعتقد أن تلك الشبكات وراء انتشار «كورونا».
وليس صحيحاً أن حديث المؤامرة مجرد همسات متناثرة لقلة مهمشة مسكونة بهلوسات الشك، وفاقدة للثقة بحكومتها. وقد نشر معهد «بيو» الأمريكي لأبحاث الرأي العام، دراسة مهمة منذ أيام، أثبتت أن ثلاثة من كل عشرة أمريكيين، أي 29% تقريباً، يؤمنون بوجود مؤامرة، ويرفضون الرواية الرسمية بأن فيروس كورونا تفشى بصورة طبيعية، كما يقول العلماء. ويتمسكون بأنه تم تخليقه معملياً.
وتوضح الدراسة أن نسبة المقتنعين بهذا الرأي من الرجال، والنساء، متساوية تقريباً. أما الشريحة العمرية فإن الشباب بين 18 و29 عاماً، أكثر اقتناًعا بوجود مؤامرة بنسبة 35% بينما تنخفض النسبة بين المسنين من 65 عاماً فأكثر إلى 21%.
ولم تكن مفاجأة أن يتبين وجود علاقة عكسية بين ارتفاع مستوى التعليم، والإيمان بالمؤامرة؛ فلم تزد نسبة المقتنعين بتخليق الفيروس معملياً عن 19% بين حاملي الشهادات الجامعية، مقابل 35% بين الحاصلين على تعليم مدرسي فقط.
وعندما يفرض حديث المؤامرة نفسه فمن المهم الإشارة إلى أربع ملاحظات: الأولى أن التشكيك في أسباب انتشار «كورونا» ليس استثناء، فهناك قائمة لا نهاية لها من الأحداث التي نسج المتشككون روايات غامضة حولها، أشهرها في تاريخنا المعاصر هجمات 11 سبتمبر، في أمريكا. وحتى الآن يرى المؤمنون بنظرية المؤامرة أن «تنظيم القاعدة» لم يكن المنفذ، والكتابات في هذه الاتجاه كثيرة.
الملاحظة الثانية، أنه ليس ضروريا ًأن يدور حديث المؤامرة حول كارثة دامية، فقد ينصب التشكيك على إنجاز علمي حضاري، مثل هبوط الإنسان على القمر الذي يصر أصحاب نظرية المؤامرة على نفيه. والغريب أنهم عادوا للحديث نفسه بتوسع، العام الماضي، بمناسبة مرور نصف قرن على الحدث.
الملاحظة الثالثة أن المروجين للأوهام لا يكتفون بالتمرد على الرواية الرسمية لحدث وقع بالفعل، بل قد يطرحون قصصاً لم يثبت حدوثها، ويدّعون وجود مؤامرة لإخفائها. والمثال الأشهر هو حكايات الأطباق الطائرة، والمخلوقات الفضائية. وكان الكاتب المصري الراحل أنيس منصور، من أشد المقتنعين بها. وله كتابان عن «الذين هبطوا من الفضاء، والذين عادوا إليه».
الملاحظة الأخيرة، هي أن بعض الظن ليس إثماً أحياناً، فقد يتبين بعد حين أن حديث المؤامرة كان الأصدق. وعلى سبيل المثال، اتهم النازيون الشيوعيين بإحراق البرلمان الألماني عام 1933 كذريعة للتنكيل بهم. وظلت تلك هي الرواية الرسمية إلى أن اثبت أربعة مؤرخين في 2001 كذب النازيين، وأنهم مدبّرو الحريق. كذلك تفجيرات بغداد عامي 1950و1951 ثم عمليات التخريب في مصر في ما عرف بفضيحة لافون 1954 وفي الحالتين تبين أن المشككين كانوا على حق/، وأن «إسرائيل» هي من دبّرت العمليتين.
وفي كل الأحوال، لا يجب التعامل مع نظرية المؤامرة باعتبارها ظاهرة مرضية، بل الأصح أنها طبيعة إنسانية، فطالما أن بعض البشر يدمن الكذب فسيكون هناك دائماً من يتحصن بالشك بحثاً عن الحقيقية التي تظل حائرة بين الفريقين.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"