البعد الداخلي لمغامرات بوتين الخارجية

02:37 صباحا
قراءة 4 دقائق
عاصم عبد الخالق

من أوكرانيا إلى سوريا يمضي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في صراعه الطويل والمعقّد مع الغرب من أجل الدفاع عن المصالح الاستراتيجية العليا لبلاده، وانتزاع مكاسب سياسية ستكون مطلوبة ومفيدة عندما يحين وقت المساومة والصفقات المتبادلة.

ومع ذلك فإن المصالح السياسية العليا للدولة الروسية ليست هي الدافع الوحيد الذي يحرك بوتين ويحفزه على خوض تلك المغامرات الخارجية المكلفة. هناك أيضاً البعد الداخلي، وهو محفز مهم يلعب دوراً حيوياً في توجيه سياسته الخارجية، حتى لو لم يلق ذلك اهتماماً إعلامياً كافياً.
الانتقال من الخارجي الدولي إلى الداخلي المحلي أمر مهم لفهم الأسباب الكامنة وراء سياسات بوتين التصادمية مع الغرب. ومن دون التقليل من أهمية الخطوات التي يتخذها سواء في سوريا أو أوكرانيا لخدمة مصالح بلاده وفقاً لحساباته الاستراتيجية، فإن المصالح الخاصة له شخصياً ولنخبته الحاكمة تبقى حاضرة بقوة في صياغة وتحديد سياسته الخارجية، ومن ثم تلعب دوراً مهماً في توجيه هذه السياسة.
فإذا كانت للدولة الروسية أهداف ومصالح تدفعها للتدخل في أوكرانيا أو سوريا ، فإن لبوتين شخصياً مصالح ومكاسب سيجنيها من هذا التدخل.
يسعى الرئيس الروسي دائماً لتسويق نفسه داخلياً باعتباره الزعيم الوطني القوي القادر على الصمود في مواجهة محاولات الهيمنة الأمريكية، والقادر على الحفاظ على هيبة الدولة واستعادة قوتها وإحياء أمجادها الغابرة.
وفي سبيل ذلك يلعب بمهارة على مشاعر الحنين للماضي، وإلهاب الشعور الوطني الجارف والمتحمس حتى بلا وعي. هذه اللعبة التي يمارسها بمهارة واقتدار منذ سنوات تسهم في توطيد أركان حكمه، ودعم شعبيته رغم الأزمات الاقتصادية الخانقة التي تعانيها البلاد. وقد ساهمت هذه السياسة في إلهاء الرأي العام عن الكثير من أزماته الداخلية.
وبطبيعة الحال فإن بوتين يعلم تماماً أنه يعزف على وتر حساس وملتهب في الشخصية الروسية المعتزة بكرامة بلادها وثقافتها وتاريخها التليد. ولا يفعل بوتين أكثر من إيقاظ هذه المشاعر وتوظيفها دعماً لسلطته وضماناً لالتفاف الشعب حوله. إنها لعبة قديمة ومضمونة يتقنها القيصر الروسي الجديد ، إدراكاً منه أن لدى مواطنيه إحساساً دفيناً بالإهانة القومية، وأن لديهم جرحاً غائراً في كبريائهم الوطني منذ انهيار الاتحاد السوفييتي. وما يفعله بوتين ببساطة هو الترويج لسياسته الخارجية باعتبارها محاولة لإحياء واستعادة العصر الذهبي الآفل.
أمام هذه المهمة المقدسة، وهي استعادة الماضي المجيد، تتراجع كل التحديات، وتتضاءل المطالب الداخلية، وتؤجل الأزمات المحلية، فلا صوت يعلو فوق صوت المعركة.
اللعبة باختصار لخّصها المحلل الروسي أندري كوليشنيكوف الباحث بمركز كارنيجي في موسكو عندما قال إن ممارسة القوة في الخارج على نحو ما يفعل بوتين في أوكرانيا وسوريا هو السبيل الوحيد لتحقيق إنجاز يمكن تسويقه داخلياً ، باعتباره خطوة على طريق استعادة مجد روسيا الغابر. هذا هو المتاح أمام بوتين في الوقت الراهن لأن تحقيق هذا الهدف، أي استعادة المجد القومي، عبر إنجاز داخلي يبدو مستبعداً تماماً وليس بوسع بوتين إنجازه.
النتائج حتى الآن تقول إن الرئيس الروسي موفق في رهانه ، بدليل أن الاستطلاعات (إذا كانت صادقة) تشير إلى أن شعبيته تصل إلى 80% ، وأن المواطن العادي ، ورغم كل الصعوبات التي يواجهها ، يشعر بالفخر ببلاده وقائدها الذي أعاد للدولة كرامتها.
ثمة تفسير آخر يقدمه الباحث الروسي نفسه ، يوضح لماذا ترتفع شعبية بوتين رغم الوضع الاقتصادي السيئ، ذلك أن جانباً كبيراً من المواطنين الروس يعتمدون على الدولة في توفير احتياجاتهم المعيشية، ومن غير المحتمل أن يعض هؤلاء اليد التي تمتد إليهم، وفقاً لتعبير الباحث.
وبسبب حاجة المواطن العادي للدولة واعتماده عليها من ناحية، والمشاعر القومية الملتهبة التي أججتها الدعاية الحكومية من ناحية أخرى، فليس غريباً أن يتجاوز المواطن العادي عن الكثير من مشاكله الداخلية، وأن يتحمل معاناته اليومية بصبر، ولا يلقي بالاً لمشاكل يعتبرها ثانوية مثل حقوق الإنسان أو الإصلاحات السياسية. كل هذا في سبيل حماية الدولة وحماية الأغلبية التي تحاول الأقلية تدميرها، كما تقول الدعاية الحكومية.
النتيجة السلبية لكل هذا ، كما رصدها البحث الروسي المخضرم، هي وجود دولة منقسمة بين الموالين وغير الموالين، والوطنيين وغير الوطنيين، والمصطفين مع الحزب والرئيس والمعارضين لهم. لم يعد بوتين أمجاد الحقبة السوفييتية بعد، لكنه أعاد إنتاج أسوأ ما فيها عندما كانت الدولة والرئيس شيئاً واحداً، وقد عاد الوضع إلى الحالة نفسها الآن.
الدعاية الهستيرية الفجّة ، وهي أحد مكونات الميراث الخالد للحقبة الشيوعية ، أعاد بوتين إنتاجها أيضاً ، بحيث أسفرت هذه الدعاية المتوحشة عن تدجين نوع من المواطنين مغيبي الوعي تقريباً لا تحركهم إلا مشاعر قومية متفجرة وبلا تمييز ، تأييداً للقائد المعصوم.
يبقى السؤال بعد ذلك هو إلى متى يمكن أن يمضي بوتين في لعبته هذه؟ يجيب كوليشنيكوف أن إشغال المشاعر القومية عبر معارك مع الغرب قد يكون تكتيكاً جيداً ومفيداً في المدى القصير. ولكن المشكلة أنه لا توجد رؤية طويلة الأمد لكيفية المحافظة على قوة ومصالح النخبة الروسية الحاكمة ، بما في ذلك بوتين نفسه.
وعند نقطة معينة لن يستطيع بوتين أن يمضي في هذه اللعبة لأنه سيحتاج إلى تقديم شيء عملي محدد ، كإنجاز يرضي به شعبه. ولن تكفي عندئذ المشاعر القومية الفياضة، أو إثارة خوف المواطنين وحنينهم للماضي. فلن يملأ كل ذلك البطون الخاوية.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"