التهميش والإنصاف

04:22 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. مصطفى الفقي

مع السنوات الأولى لبداية القرن العشرين تبادلت صحيفة «اللواء» المصرية ورئيس تحريرها عبد العزيز جاويش وصحيفة «مصر» القبطية، حواراً ساخناً وصل إلى حد التراشق الطائفي، وكان دليلاً على أن البلاد تدخل مرحلة من الريبة لا يبدو الاحتلال البريطاني بعيدًا عنها، والهدف منها هو إذكاء نار الفتنة بين المسلمين والمسيحيين في مصر وتطبيق سياسة (فرّق تسُد) التي برع فيها المحتل الأجنبي، ولقد نجحت سياستهم مرحلياً على نحو أودى بحياة بطرس باشا غالي رئيس الوزراء عام 1910، والذي ظل يلفظ أنفاسه لعدة ساعات، وعندما حضر الخديوي عباس حلمي الثاني ليرى رئيس وزرائه وهو يحتضر في المستشفى، ردد رئيس الوزراء في تواضع وطيبة: «هذا كثير علينا يا أفندينا»، وكأنما يودع الحياة برقة وأدب بعد رصاصات أطلقها عليه إبراهيم ناصف الورداني طالب الصيدلة، الذي كان يدرس في الخارج قبل ذلك. ولقد تبع ذلك توتر عام في البلاد فانعقد المؤتمر القبطي في أسيوط الذي تقدم بعدة مطالب، وتبعه بفترة وجيزة مؤتمر إسلامي انعقد في مصر الجديدة بدعوة من (الناضوري باشا) وأصبحنا أمام فتنة عامة تبدو دخيلة على الوطن المصري، إلى أن ظهر وكيل الجمعية التشريعية وهو فلاح حقوقي ينتمي إلى فئة أعيان الريف أدمن لعب الورق فترة من حياته؛ بل وكان خطيباً في احتفال توديع المندوب السامي البريطاني (اللورد كرومر) كما أنه زوج ابنة سياسي قضى مدة في رئاسة الوزراء تعد من أطول الفترات وهو مصطفى باشا فهمي، والشخص الذي أعنيه هنا هو زعيم ثورة 1919 سعد باشا زغلول، الذي شهدت حياته تحولاً جذرياً حتى أصبح الرمز الحقيقي للحركة الشعبية والوحدة الوطنية وقاد واحدة من أعظم ثورات مصر وأعني بها ثورة عام 1919. وعندما اجتمع بعض الأقباط برئاسة (جورج خياط) في نادي رمسيس قرروا ضرورة المشاركة في حركة سعد زغلول - إذا جاز التعبير - وذهبوا إليه قائلين: نحن معك لأننا جميعاً مصريون، فقال لهم: «لكم ما لنا وعليكم ما علينا»، وكان ذلك تأكيداً حقيقياً لمعنى المواطنة التي نتحدث عنها الآن. وقد شهدت تلك الفترة ومضات مضيئة للوحدة الوطنية الحقيقية. حتى إن (عريان سعد) تطوع لاغتيال يوسف وهبة باشا رئيس الوزراء القبطي للمرة الثانية في تاريخنا الحديث حتى لا تثور فتنة، محبذاً أن يكون القاتل والقتيل من ديانة واحدة وأطلق عليه رصاصاته وهرب إلى داخل مقهى ريش الذي نعرفه الآن في شارع طلعت حرب (سليمان باشا سابقاً)، وكان لتجليات الوحدة الوطنية ما أعلنه واصف بطرس غالي من أنه يعفي الأمة من دماء أبيه، سعياً نحو وحدة الوطن مهما كان الثمن، وظهر مكرم عبيد باشا خطيب الثورة ورفيق سعد زغلول والنحاس لكي يلهب الحماس بلغته الرائعة وخطبه الرصينة فهو القائل: (اللهم يا رب المسلمين والنصارى اجعلنا جميعاً للوطن أنصاراً).
وعندما قامت ثورة يوليو عام 1952 وخلت حركة الضباط الأحرار من الوجود القبطي إلا ضابطًا صغيراً في الصف الثاني أو الثالث من الضباط الأحرار بدت للمحللين بعض مظاهر تأثير جماعة الإخوان على رؤية الضباط الأحرار حينذاك، رغم أن عبد الناصر يعتبر حاكماً علمانياً بدرجة كبيرة وهو في ذلك يشبه محمد علي مؤسس مصر الحديثة، ولقد حددت الثورة المصرية مربعاً ضيقاً للحركة السياسية للأقباط، فاستوزر جمال عبد الناصر أسماء محددة مثل: جندي عبد الملك وكمال رمزي أستينو وكمال هنري أبادير، ولم ينزعج الأقباط لأنه البطل القومي الذي ضرب جماعة الإخوان المسلمين ضربتين كبيرتين في عامي 1954 و 1965، وقد قال لي الدكتور لويس عوض في غداء كنت فيه أنا وهو وحدنا بالنادي الدبلوماسي، إن عبد الناصر كان يتسمع عظات الكنائس فقلت له وأيضاً إلى خطب المساجد! فالمساواة في الضغط على الجميع عدل، وعندما جاء السادات انفجر بركان الغضب وغابت الكيمياء الطبيعية بينه وبين البابا شنودة ولم يتمكن مثل عبد الناصر من احتوائه للبابا كيرلس السادس وانتهى الأمر بالتدهور الذي دفع السادات لأن يقول قولته الشهيرة: (أنا رئيس مسلم لدولة مسلمة)، وإذا كان أكبر إنجاز لعبد الناصر على المستوى القبطي هو بناء الكاتدرائية فإن أكبر إنجاز لمبارك كان هو إعلان السابع من يناير عطلة رسمية، وأظن صادقاً ودون شبهة نفاق أن السيسي يؤمن في أعماقه بمفهوم المواطنة الكاملة وهو الذي يعيد بناء عشرات الكنائس ويزور الكاتدرائية في أعياد الميلاد كل عام.
إننا ننتقل بحق من مرحلة التهميش للأقباط إلى إنصافهم وفقاً لتعاليم الإسلام، الذي يدعو إلى ذلك وأظن أن الرئيس السيسي يحتكم فيما يفعل إلى إيمانه الديني الذي يدعوه إلى المساواة بين أبناء الوطن، بقي أن نرى من الأقباط محافظين ورؤساء جامعات حتى تكتمل منظومة الإنصاف خصوصاً وأنهم يملكون من ثروة البلاد في القطاع الخاص ما يصل إلى 30% كما أن مساحات الأديرة الواسعة، تعيد التوازن بين أعداد المساجد والكنائس على أرض الكنانة.. حماها الله للمسلمين والمسيحيين على السواء.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"