الاحتفاء بأبي الطيب (3)

05:15 صباحا
قراءة دقيقتين

إذا وجد أحدنا الكلام الجميل المتزن عند شاعر من شعراء العربية، وأراد أن يبحث عن كلام مماثل أو أحسن منه، فإنه واجد ذلك عند أبي الطيب، وميزته أنه أخذ المعاني الجيدة ممن سبقه ووضعها في قالبه الخاص الذي فصّله وجهزه لمقاس عقله الكبير، بحيث إذا قارنته بغيره ظهر لك أنه هو السباق إلى هذه المعاني وليس غيره.. أما الذين جاؤوا بعده حتى يومنا هذا من الشعراء فنجد معظمهم إن لم نقل كلهم، عيالاً على أبي الطيب وضيوفاً على موائده وعلى أطايب طعامه..لنستمع إلى أقوال لأبي الطيب، تنقط علينا العسل، وترينا الاتزان والعقل الكبير والنفس الكبيرة..

أصادق نفس المرء من قبل جسمه

وأعرفها في فعله والتكلم

وأحلم عن خلى وأعلم أنه

متى أجزه حلماً على الجهل يندم

وإن بذل الإنسان لي جود عابس

جزيت بجود التارك المتبسم

وما كل هاو للجميل بفاعل

ولا كل فعال له بمتمم

ولو قصرنا الحديث على مثالية واحدة أو جمع من المثاليات لهذا الشاعر العظيم، وعلى نقاط معينة، نجد أن أبا الطيب ترك لنا تراثاً فكرياً كبيراً من أمثال سائرة وحكم قيمة، كان فيها أبو الطيب، المعلم، وكان فيها المرشد، ومازلنا حتى ساعتنا هذه نضرب حول أقواله الأمثال، ونستشهد بها في كل حديث من أحاديثنا، وفي هذا كله كفى أبا الطيب هذه المأثرة التي تظهر أنه كان شاعر الإنسان، فيما يمر به الإنسان في يومه، من صبحه وحتى مسائه، يصف طموح الإنسان، ويصف خيبة أمله إن لم يحقق طموحه، ويصف تشاؤمه وإيمانه واستقراره النفسي، ويصف صدقه وكذبه، وكل خلجات نفسه، وكأنه طبيب نفساني حاذق في التحليل، وصادق مع نفسه ومع الأخرين، وذو تجارب في الحياة ليس لها حد..

ذل من يغبط الذليل بعيش

رب عيش أخف منه الحمام

***

إذا غامَرْتَ في شَرَفٍ مَرُومِ

فَلا تَقنَعْ بما دونَ النّجومِ

فطَعْمُ المَوْتِ في أمْرٍ حَقِيرٍ

كطَعْمِ المَوْتِ في أمْرٍ عَظيمِ

***

ومن البلية عذل من لا يرعوي

عن غيهّ وخطاب من لا يفهم

وعشرات من مثل هذه الأقوال العذبة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"