علاج الظاهر أم علاج المخفي؟

04:15 صباحا
قراءة 3 دقائق

ظاهرة ارتفاع الأسعار، خصوصاً أسعار المواد الغذائية، كانت بامتياز ظاهرة عولمية في عالم تسيره بقسوة وعنف ثقافة العولمة وايديولوجية أختيها في الرضاع: الليبرالية الجديدة والرأسمالية المتوحشة.

لكن ما يثير الدهشة هو إصرار وسائل الإعلام المرئية والمسموعة عند النظر في هذا الأمر على تفسير الظاهر بشيء ظاهر آخر، وعلى تجنب البحث عن أي تفسير خفي. فارتفاع أسعار البترول هو نتيجة للنمو الاقتصادي المحموم في الصين والهند. وارتفاع أسعار المواد الغذائية هو نتيجة ارتفاع أسعار الأسمدة الصناعية، والتي بدورها مرتبطة بأسعار البترول والتي بدورها مرتبطة بضعف الدولار. ومن هنا وهناك تقحم مواضيع فرعية من مثل ظواهر الفساد والمضاربات أو الجفاف والفيضانات والتصحر وغيرها. هكذا ظلت المناقشات تدور حول أسباب فرعية ظاهرة وتتجنب ببراءة، وقد يكون بخبث، السبب الخفي الكامن وراء تلك الظواهر. دعنا نبرز بعض النقاط المحورية اللازمة لتسليط الضوء على هذا الموضوع.

* أولاً: إن طبيعة الرأسمالية هي نظام تتفجر في جوانبه بين الحين والآخر أزمات تمتد من الأزمات الانكماشية المؤقتة كما رأيناها في السبعينات من القرن الماضي في بعض البلدان الرأسمالية، الى أزمات كارثية كبرى من مثل الكساد الاقتصادي الكبير الذي شمل العالم كله في أواخر العشرينات من القرن الماضي. ألا تفرض السيرورة التاريخية للنظام الرأسمالي اعتبار اضطرابات الأسعار الحالية وفقدانها التوازن المطلوب لاستقرار اقتصاد السوق دليلاً على أن الرأسمالية العولمية، التي تحكمها ايديولوجية الليبرالية الجديدة، قد بدأت بالدخول في أزمة جديدة من أزماتها التي لا تنتهي؟

* ثانياً: إن ايديولوجية الليبرالية الجديدة تقوم على أسس ومسلمات مضادة لكثير من القيم الإنسانية العليا. إنها تعتبر اقتصاد السوق غاية في حد ذاته، وليس وسيلة لغايات اجتماعية وثقافية نبيلة. ولذلك فهي فلسفة ترفض أي تخطيط من أي نوع للمجتمع، وبالتالي تسعى بكل وسيلة لإضعاف أدوات التخطيط وعلى رأسها سلطة الدولة الوطنية. وهي ترفض فكرة توزيع الثروة في المجتمع إلا ما يسمح، ويتفضل به السوق نفسه. وهي بصورة عامة ترفض وجود قيم أخلاقية وتعتبرها مجرد أفكار قابلة للأخذ والرد. وهي تهزأ بأية محاولة للاكتفاء الاقتصادي الذاتي لأي مجتمع، وتعتبر أي حواجز أمام التبادل التجاري من أجل ذلك الاكتفاء خطاً أحمر، لا يمكن تجاوزه. وهي تعتبر أن أي تجمع مدني، من مثل النقابات العمالية، هو تجمع يعيق الاقتصاد ويمنع المرونة في التوظيف.

* ثالثاً: عندما تكون الفلسفة التي تقود عجلة الاقتصاد، بل وعجلات السياسة والاجتماع والثقافة، بهذه الصورة البشعة، فهل يستطيع العالم أن يتجنب أشكال الفضائح والمآسي التي تعيشها البشرية اليوم؟ هل يستطيع تجنب أن يسيطر 51% من سكان العالم على 80% من ثروة الأرض؟ وأن يكون الناتج القومي الإجمالي لثماني وأربعين بلداً فقيراً أقل من الناتج الإجمالي لثلاث دول غنية؟ وأن يموت يومياً خمس وثلاثون ألف طفل بسبب أمراض يمكن الوقاية منها؟ وأن يخسر الاقتصاد العالمي سنوياً أربعمائة مليار دولار بسبب الفساد المالي والإداري؟

قاطرة الاقتصاد التي تقوم على تلك الأسس والمشكلات، والتي تقودها أمريكا والدول الرأسمالية الصناعية الأخرى، والتي تزيد الميزة الإنتاجية لدول المركز الرأسمالية في كل حقل وتضعف الميزة التنافسية لدول الأطراف النامية في كل حقل، القاطرة التي تتوجه الى الإنتاج المكثف لسلع من مثل الساعات والتلفزيونات المحمولة، لأنها هائلة الربح وتكتفي بالدعم المتواضع للإنتاج الزراعي لأنه قليل الربح، القاطرة التي تعتقد بأن منطق السوق قادر، من دون تدخل من أحد، على حل مشكلات الصراعات والحروب والفقر وأوبئة الجرائم والمخدرات، هذه القاطرة هي التي يجب أن تتوقف ويجري فحصها من جديد ويعاد النظر في وجهتها المرة تلو المرة. تلك القاطرة هي العنصر الخفي، الذي تحتاج وسائل الإعلام أن تزيح القناع عن وجهه القبيح.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

شغل منصب وزير الصحة ووزير التربية والتعليم سابقاً في البحرين. متخصص في كتابة مقالات في شؤون الصحة والتربية والسياسة والثقافة. وترأس في بداية الألفين مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث. كما أنه عضو لعدد من المنظمات والمؤسسات الفكرية العربية من بينها جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"