غرائب ... ضيعة فرنسية تخاصم "الرفاهية الزائفة"

"بيزيك" تعود إلى الفطرة حفاظاً على الطبيعة
01:14 صباحا
قراءة 6 دقائق
يبدو أن الكثيرين من أنصار البيئة سئموا الدعوات غير المستجابة لايقاف مصادر التعجيل بإفقاد الأرض لتوازنها وإلغاء مقومات الحياة على سطحها، فراحوا يبحثون عن حلول ذاتية عملية قد لا تغير من خطورة الأمر الشيء الكثير لكنها تظل تعبيراً عن رد فعل مفعم بالرمزية التي تعكس سخطاً على التقاعس اللامسؤول الذي يميز تصرفات أصحاب القرار الحقيقيين منهم والمباشرين، وذلك بحجة أن الآخرين غير ملتزمين ولا متعاونين. إنه اليأس إذن من الدوران في حلقة مفرغة غيرت وجهة الأشكال من البحث في كيفية تجنب الخطر المحدق بالبيئة إلى البحث عن المتهم الرئيسي والمسؤول الفعلي عن هذا الخطر. ذلك هو الدافع الأصلي وراء القرار الصامت الذي اتخذه سكان ضيعة بيزيك الواقعة بشمال فرنسا، والقاضي باللجوء إلى أحضان الطبيعة للعيش وفق قوانينها ومن خلال هباتها والاستغناء عن كل الملوثات التي توفر رفاهية زائفة لأنها باهظة الثمن. إنه مشهد أقرب إلى بداية الوجود الإنساني على الأرض، لكن أهالي بيزيك لا يرون في هذه البداية عودة إلى الصفر بقدر ما يعتبرونها تصحيحاً لمسار قد يتمخض عنه تاريخ جديد وحقيقي لأنه لا يتشكل على حساب الطبيعة وإنما يكون وفقها ومن خلالها. لهذا عادوا إلى الطبيعة وبدأوا بالبحث عنها في ذواتهم معلنين الاكتفاء بها ومستغنين عن كل كماليات الوجود بما في ذلك ماء الحنفية والكهرباء.تحولت ضيعة بيزيك إلى رمز للمحافظة على البيئة بل وإلى نموذج بيئي يحتذى بفضل تميزها بتلازم خاصيتين، الأولى ثراء وكرم طبيعتها والثانية وعي أهلها بالقيمة الحقيقية لهذا الثراء الطبيعي الذي لا يمثل فحسب كل ثروتها بالمعنى المادي للكلمة، وإنما يمثل كذلك وبالأساس ماهية ذاتها. لهذا يبدو أن أهلها لم يبحثوا طويلاً ليجدوا أن الطريق الصحيح، طريق الحياة بالمعنى الفطري هو ذلك الذي يؤدي إلى التماهي مع سياق وإطار المشهد السائد، فضيعة بيزيك هي الطبيعة وهي في ذات الوقت الوعي بقيمة الطبيعة المتلازمة لكل جزئيات الحياة ما لم يتدخل لتحويلها ثم تخريبها عقل الإنسان أو يده أو لسانه. ميزة أهالي بيزيك تكمن في إدراكهم أن الطبيعة ليست الآخر وإنما هي نحن. وبهذا المعنى يكون تخريبها والتقاعس عن درء الخطر عنها، تكريساً للاغتراب عن ذواتنا. تلك هي الحدود الفارقة بين الدوافع التي أعادت أهالي بيزيك إلى الطبيعة والتبريرات التي يسوقها المتقاعسون عن كف الأذى عنها بين من يحلم بواقع إنساني جديد وطبيعي وخال من الملوثات ومن يعتقد في استحالة تحقيق هذا الحلم الطوباوي بين من يجزم بإمكانية الاستغناء عن الرفاهية الزائفة لما تضمره من مخاطر باهظة الثمن، ومن يؤكد أن أخطار التلوث تمثل ضريبة رفاهية لم يعد بوسع الإنسان العيش من دونها. بين من يرى أن العودة إلى الطبيعة هي الشكل الصحيح للوجود ومن ينظر إلى هذه العودة على أنها رجوع إلى بدائية فوضوية تكلف الإنسان قروناً من العمل للتخلص منها.رغم كل ذلك أهالي بيزيك لا يترددون في اختيارهم ولا يشكون في وضوح طريقهم: يجب مقاومة التلوث وارتفاع معدلات درجة حرارة الأرض، لهذا يجب التسلح بالشجاعة للاستغناء عن كل المواد التي يقتضي إنتاجها استخدام مواد مضرة بالبيئة، سواء كانت أطعمة أو ألبسة أو مواد بناء، فهل يمكن للإنسان أن ينسجم كلياً مع الطبيعة إلى حد أنه يصبح كائناً غير ملوث؟هذا السؤال يحيلنا إلى نمط حياة أهالي بيزيك الذي سعت مجلة ايل الفرنسية إلى نقله من خلال زيارة ميدانية قام بها مراسلوها إلى الضيعة.ايفلين (41 سنة) واحدة من أهالي بيزيك تعيش في كوخ صغير صنعته بيديها باستخدام الطين والأعشاب. في هذا الكوخ البيئي تقوم يومياً بإعداد فطور الصباح الذي لم يعد يتضمن الخبز المحمص ولا القهوة الممزوجة بالحليب. إن التأقلم مع الطبيعة يقتضي الاعتماد على ما يتوفر من أعشاب صحية. لهذا فإن الوجبة الصباحية تحتوي على شراب أعشاب مغلية أو منقعة مثل الأوكاليبتوس والحبق الترنجاني، كما يمكن أن تحتوي أيضاً على الكستناء المشوية في الموقد، بالإضافة إلى حبات صغيرة من التفاح البري. في الضيعة لا يكثر الناس من الأكل الذي يتنوع بحسب ما يتوافر في كل فصل، وذلك لأن الطعام ليس هو الغداء الوحيد. تقول ايفلين مشيرة إلى السماء ثم إلى الأرض التي تنام عليها: إن لديّ مخزوناً من المياه يعادل 3000 لتر، يجود بها المطر، بالإضافة إلى ما يوفره خشب الأشجار من دفء. لذلك أشعر بأنني أملك الخيرات الطبيعية الأساسية من طاقة كونية ونار وماء ووقت. ولأنها تعيش في غنى عن الرفاهية الزائفة وما يتبعها من استحقاقات يومية وأسبوعية وشهرية كالفواتير والإيجار، فإن ايفلين تكتفي لتأمين حد أدنى من الدخل، بالعمل يوماً واحداً في الأسبوع تقوم فيه باعطاء دروس في العزف على البيانو.هكذا تشعر بالتحرر من القوانين الإلزامية التي كبل بها الإنسان نفسه، لتختار طواعية العيش وفق القوانين الطبيعية التي تجعل الإنسان منسجماً مع نفسه. فالطبيعة تهب اللاجئين إليها حباً وطواعية، كل ما يحتاجونه. وأمثال ايفلين لا ينتجون عادة أكثر من مقدار حمولة عربة صغيرة من النفايات سنوياً وسرعان ما تتم إعادة تصريفها بشكل طبيعي آلي بحيث تكون مناسبة للمحافظة على البيئة الطبيعية من خلال إثرائها. هكذا كانت العودة إلى الطبيعة مناسبة اكتشف من خلالها أهالي بيزيك عيباً خطيراً في ما يعتقد الإنسان عادة أنه رفاهية وهو الافراط في الاستهلاك. لهذا فإن التقشف يمثل أحد أبرز سمات العيش في انسجام مع الطبيعة. وعلى الرغم من أن هذا التوجه نحو الطبيعة يعد اختياراً واعياً وإرادياً من قبل أهالي بيزيك إلا أنهم لا يحبذون الخوض في مسألة الدوافع التي أدت بهم إلى الاختيار، إذ يعتبرون ذلك ضرباً من العودة إلى ماض لا يريدون الحديث عنه. فالجميع يعبر عن رغبة في حياة أكثر حقيقية.وبين هذا الرفض للماضي والرغبة في المستقبل، يبدو أن هناك دافعاً ما وإن اختلفت تفاصيله باختلاف ظروف كل فرد. ايفلين مثلاً مطلقة جاءت بابنتها وابنها مذ كانا طفلين واستقرت معهما في بيت صغير سقفه من القش. واليوم أصبح ابنها في العشرين من عمره وغادر للدراسة في إحدى المدن الفرنسية، بينما تعيش ابنتها بجوارها في كوخ صغير بنفس المواصفات البيئية التي بنيت بها بقية أكواخ بيزيك.وماريون (27 سنة) وهي أيضاً واحدة من سكان بيزيك تقول إنها جاءت قبل سنتين لتقضي فترة حملها في بيئة صحية بعد أن انفصلت عن زوجها. وهي تؤكد في هذا السياق: وجدت في بيزيك كل ما كنت أصبو إليه. هذه النبرة الخفية الحزينة المميزة لخلفيات الحديث عن دوافع اللجوء إلى بيزيك تتكرر باستمرار تقريباً مع مختلف الذين يعيشون في هذه الضيعة. هذا التشابه النظري العام في الماضي وفي الدوافع التي وجهتهم نحو اختيار اللجوء إلى الطبيعة والالتزام بهدف مشترك يتمثل في المحافظة عليها، كل ذلك جعل مجتمع بيزيك أشبه بالعائلة الواحدة التي تتقاسم الشبه في كل شيء، في الماضي والحاضر والمستقبل. مدرسة من نوع خاص حرصاً على التواصل مع الأجيال اللاحقة، كانت المسائل التربوية من أولويات مجتمع سكان بيزيك الذين يعتبرون أنهم أصحاب مشروع اجتماعي تربوي يجب أن يتواصل ويتطور عبر أشكال تعليمية تضمن انتقال الأفكار والخبرات إلى الأبناء. لهذا لم تمانع الدولة الفرنسية من الاعتراف بحق أهالي بيزيك في أن تكون لهم مدرستهم وإن اعتبرت مدرسة خاصة. وعهد إلى آن بياتريس وهي اخصائية تقويم النطق تدريس جزء مهم من المنهج الذي يرتكز بالأساس على الفنون التشكيلية والعلوم الطبيعية. أما الرياضيات وبقية المواد فتعلم في سياق الحياة اليومية عند تقطيع الخبز مثلاً إلى أربعة أرباع. أما قاعة الدرس فلا يختلف تصميمها شكلاً ومضموناً عن بقية الأكواخ السكنية، إذ لا توجد بداخلها كراسي ولا طاولات وإنما آلات موسيقية وكتب. بهذا التصور للمدرسة يتأكد أن مجتمع بيزيك لا ينظر إلى المستقبل على أنه سيكون امتداداً طبيعياً للحاضر الذي هو بدوره امتداد للماضي. فأهالي بيزيك من شدة إدراكهم وإحساسهم بالمخاطر التي تتعرض لها البيئة والتي توشك أن تغير ملامحها وملامح الكون برمته، يعتبرون أن المستقبل سوف يشهد تحولاً جذرياً في حياة الأرض هو عبارة عن منعرج تاريخي سيتحول بعده حاضرنا الحالي إلى ما يشبه مرحلة ما قبل التاريخ. لهذا فإن نمط حياتهم لا يعكس رغبة في الزهد ولا في الاختلاف وإنما هو صيحة فزع عملية تعكس رغبة في الحياة والتعايش في انسجام مع الذات ومع الآخرين ومع الطبيعة.
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"