اتفاق موسكو.. هزيمة أردوغان

02:21 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. محمد فراج أبو النور *

التوقيع التركي على اتفاق وقف إطلاق النار في إدلب (موسكو- 5 مارس الجاري)، لا يمكن إلا اعتباره تسجيلاً للاعتراف بالهزيمة السياسية والعسكرية لأردوغان، بعد أكثر من شهر من المعارك الطاحنة والخسائر الفادحة، والإنذارات المتكررة من جانب الرئيس التركي للجيش السوري بالانسحاب إلى ما وراء نقاط المراقبة التركية، أي بالتخلي عن المكاسب العسكرية الكبرى التي حققها في شمالي حماة، ومحيط حلب، وجنوبي إدلب، وصولاً إلى استعادة السيطرة على طريق حلب- دمشق (M4) ومدينة سراقب الاستراتيجية، وأجزاء من طريق حلب- اللاذقية ومحيطه.
فجأة وجد أردوغان نفسه خلال اجتماعه بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين في الكرملين، مضطراً لابتلاع إنذاراته الصاخبة المتكررة بانسحاب القوات السورية و«الحليفة» والموافقة على وقف إطلاق النار عند الخطوط الحالية لتمركز القوات «المادة الأولى من الاتفاق»، وفتح الطريق الدولي بين سراقب واللاذقية مع إقامة منطقة آمنة بعمق (6 كم) على كل من جانبيه الشمالي والجنوبي «المادة الثانية»، وتسيير دوريات روسية- تركية مشتركة على الطريق لمراقبة آمنة ووقف إطلاق النار على امتداده «المادة الثالثة»، على أن يتم تأمين جانبي الطريق خلال (7 أيام)، وبدء تسيير الدوريات المشتركة يوم (15 مارس)، ويتم ذلك بالتنسيق بين وزارتي الدفاع الروسية والتركية.
أما ديباجة الاتفاق فتقضي بوضوح على «تأكيد الالتزام بسيادة الجمهورية العربية السورية واستقلالها وسلامتها الإقليمية»، والتصميم على مكافحة الإرهاب بكافة أشكاله، وعلى أنه لا حل عسكرياً للصراع، وعلى الالتزام بقرار مجلس الأمن الدولي رقم (2254) واتفاق سوتشي بشأن إدلب.

«اتفاق مذل»

وأثار التوقيع التركي على الاتفاق انتقادات واسعة بين حلفاء أردوغان الإرهابيين، واعتبره زعيم «هيئة تحرير الشام- جبهة النصرة» أبو محمد الجولاني «اتفاقاً مذلاً»! والحقيقة أن الاتفاق لا يتضمن أكثر من الاعتراف بالوقائع الموجودة على الأرض، والقرارات الدولية بشأن التسوية السلمية في سوريا، والاتفاقات السابقة بين الأطراف بشأن إدلب ومنطقة خفض التصعيد فيها، ولذلك فإن كلمات زعيم الإرهابيين هي دليل جديد على الانفصال عن الواقع، ورفض الاعتراف بالقرارات الدولية، والاتفاقات السابقة.. بل إن الجولاني دعا أردوغان إلى «الزحف على دمشق». ولا نعدو الحقيقة إذا قلنا إن هذه الأمزجة المتطرفة والمنفصلة عن الواقع تمثل الجوهر الفعلي لموقف أردوغان، الذي لا يستطيع أن يعبر عنه بمثل هذا السفور بحكم موقعه الرسمي وإدراكه قوة الوقائع القائمة.

النوايا السيئة

والحقيقة أن أردوغان لم يكن ليقبل بالاتفاق لولا الهزائم التي منيت بها قواته وقوات حلفائه والخسائر الفادحة في الأرواح والمعدات، وسقوط عشرات القتلى من الجنود الأتراك في ميدان المعركة للمرة الأولى منذ بدء تدخله في سوريا، ونجاح الجيش السوري وحلفائه في استعادة السيطرة على نحو نصف مساحة محافظة إدلب، وإدراكه تصميم روسيا على دعم القوات السورية.
غير أن نوايا الرئيس التركي السيئة تجاه الاتفاق تفصح عن نفسها كالعادة.. فحتى في المؤتمر الصحفي التالي لتوقيع اتفاق موسكو، وفي تصريحات أخرى تالية، يتحدث أردوغان عن الاتفاق باعتباره «اتفاقاً دائماً» مع أن جوهره يوضح أنه اتفاق مؤقت على طريق التسوية، ومع أن ديباجته تنص على سيادة سوريا واستقلالها ووحدة أراضيها، بينما يعني الحديث عن الديمومة بقاء نصف إدلب تحت سيطرة تركيا والإرهابيين الموالين لها، والذين يجب مكافحتهم وتصنيفهم حسب جميع القرارات الدولية والاتفاقات بين الدول الضامنة.
وعلى الرغم من إعلان وقف إطلاق النار، فإن حبر اتفاق موسكو لم يكد يجف، حتى كان أردوغان يدفع بحشود جديدة من القوات والسلاح إلى إدلب، كما قامت الفصائل الإرهابية الموالية له بانتهاك وقف إطلاق النار مرات عدة وقصف مواقع القوات السورية والحليفة، مع أن هذه الفصائل خاضعة تماماً للسيطرة التركية، فيما يتصل بتسليحها وإمداداتها ووجودها نفسه.
كما أعلن أردوغان أن نقاط المراقبة التركية باقية في مواقعها القديمة، مع أن هذه النقاط أصبحت تحت حصار الجيش السوري وحلفائه، أي أنها بمثابة رهائن، فضلاً عن أنه لم يعد لديها ما تراقبه، بعد أن عادت هذه المواقع لسيطرة أصحابها الأصليين، وتم طرد الإرهابيين منها.. وأصبح سحبها واجباً.
والحقيقة أن كل هذه التصرفات تلقي بظلال من الشك على جدية التزام أردوغان بفتح طريق سراقب- اللاذقية، وتأمين المناطق المحيطة به بعمق (6 كم) من الجانبين «المقرر أن يحدث يوم 12 مارس»(اليوم) وتسيير الدوريات الروسية- التركية يوم 15 مارس، وبالمناسبة فإن هذا بالضبط هو ما حدث أيام اتفاق سوتشي (في سبتمبر 2018)، وتأجيل متكرر، ومراوغة.. ثم نكوص تام عن تنفيذ الاتفاق، وسير في الاتجاه العكسي لمقتضياته؛ بل واتهام الآخرين بأنهم لم ينفذوا التزاماتهم.
على أي حال ستكشف الأيام القليلة المقبلة عن مدى التزام أردوغان وحلفائه بتنفيذ اتفاق موسكو.

الاتجاه شرقاً

من ناحية أخرى فقد أعلن الرئيس التركي عزمه على توجيه خمسة آلاف مقاتل من المنتمين إلى ما يعرف ب«الجيش الوطني السوري» نحو منطقة شرقي الفرات لمواجهة «الإرهاب الكردي» هناك، والسيطرة على مدينة «عين العرب/‏كوباني» الواقعة خارج المنطقة التي تحتلها القوات التركية شرقي الفرات، وذلك بدعوة أن «الإرهابيين الأكراد» لا يحترمون اتفاق «سوتشي- 2» الخاص بتنظيم وجود قوات «قسد» في المنطقة.. مع أن الدوريات الروسية- التركية، تتحرك في مناطق الحدود السورية- التركية، ولم تصدر عن الجانب الروسي أي تقارير تؤكد مزاعم أردوغان، وواضح أنه يريد تعويض هزائمه في حلب وإدلب بتوسيع مناطق انتشار قواته شرقي الفرات، الأمر الذي يهدد بنقل التوتر إلى هناك.. وفي الوقت نفسه يواصل دعواته لدول الاتحاد الأوروبي لتمويل مشروعاته لبناء بلدات لإقامة النازحين في تلك المنطقة.. دون جدوى.

إطالة أمد الحرب

وهكذا يستمر أردوغان في محاولة إطالة أمد الحرب في سوريا، واستنزاف مقدراتها، والاستماتة في التمسك بأطماعه التوسعية في الأراضي السورية.. وقد أوضحت تجربة الحرب في إدلب وغيرها من مناطق سوريا أن مغامرات أردوغان محكوم عليها بالهزيمة، ولكن بعد أن تدفع الشعوب ثمنها غالياً من دمائها وثرواتها، بما في ذلك الشعب التركي نفسه.

* كاتب مصري

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"