الإبداع في زمن الكوليرا

03:16 صباحا
قراءة 6 دقائق

القاهرة: محمد زكي

عندما كانت أوروبا تنفض عن نفسها غبار التخلف، وظلام القرون الوسطى، لتبدأ السير في طريق النهضة، كان العالم العربي غارقاً في الظلمة، رافضاً وسائل التحديث، وكانت مصر آنذاك تتلقى الصدمة الحضارية حين سعى الفرنسيون لاحتلالها، في أواخر القرن الثامن عشر، وكانت الأوبئة تجتاح الناس وتجرفهم في طريقها، ولم يكن أمامهم سوى اللجوء إلى المشعوذين، والدجالين.

وذكر أحد الرحالة الأجانب أن الطاعون «روح خبيثة تتسرب إلى جسم الإنسان، وقد يحلو لها أن تسكنه، حتى تقضي عليه، أو تبرحه فيشفى»، وكان الآلاف يموتون، من دون أن يجهدوا أنفسهم في البحث عن مفر، بل كانوا يرفضون مغادرة مدينتهم، أو بيوتهم الموبوءة بالطاعون، وغالباً ما كانت تلك الأوبئة تحدث بعد فترات المجاعة، والغلاء، وكان عدد الوفيات كبيراً، لدرجة أن أحد الولاة منع دفن الجثث علناً، حتى لا يزيد من حالة الفزع العامة، وقد كفانا «الجبرتي» المؤرخ، الكثير من الوقائع الخاصة بهذه الأوبئة.

هذا الموضوع «قماشة عريضة» تصلح لكتابة سرديات كبرى، دون الشعر، الذي خاضت من خلاله نازك الملائكة التجربة مع مرض الكوليرا الذي ضرب مصر، وكتبت قصيدتها التي تنازعت وبدر شاكر السياب ريادة الشعر الحديث عبرها، ولم يكن للكتّاب أن يتجاهلوا مثل هذه الأحداث الكبرى، فحين دخل العثمانيون مصر عام 1517 بعد أن هزموا دولة المماليك، عينوا ولاة، كان همهم الأول هو جمع أقصى ما يستطيعون الوصول إليه من أموال، حتى اضطر الفلاحون إلى هجر قراهم، وعاثت الأوبئة بالبلاد، إلى حد يقول فيه «ابن إياس» في كتابه «بدائع الزهور في وقائع الدهور»: «كان الناس يتساقطون موتى أمام الدكاكين، وتحت البيوت، وكان في كل حارة صفان من النعوش، أحدهما قادم من المقابر، وآخر حاملاً الموتى في الطريق إليها، وكانت تركة الميت توزع في اليوم الواحد ست مرات، وكان الميت يموت فلا يجد مشيعاً، وللإهمال والقذارة وعدم العناية انتشر في القاهرة المسلولون، والمشلولون، والمجذومون، والعميان».

جرثومة الطاعون

«جرثومة الطاعون لا تموت، أو تختفي إلى الأبد، وإنما تنام لتظهر مجدداً»، هكذا يقال، وجرثومة الطاعون هذه تظهر لدى سعد مكاوي في روايته «السائرون نياماً» حيث يستدعي المؤلف زمن المماليك، وانتشار الأوبئة والأمراض وظهور الفئران، فيسود منطق عجيب للزمن، وهو ما تشعر به شخصيات القاع، فالصبي نجار النعوش الذي تبدأ به الرواية، يقول: «زمن يروح وزمن يجيء، وسبحان من له الدوام».

وتترحم شخصية أخرى على الأحبة الذين خطفهم الموت قائلة: «إنه الطاعون الذي نظن أنه مات وشبع موتاً»، لكننا نكتشف أن «الطاعون لا يموت، إنه يختفي حقاً، ويلبد في خبث، إلى أن تحين له فرصته، فإذا الفئران راقصة، وإذا الوباء في الناس»، إن من يقرأ الرواية يعيش عن قرب فترة زوال دولة المماليك، وصعود خلافة آل عثمان.

ولأن نجيب محفوظ كان يؤمن بأن «الحزن كالوباء يوجب العزلة»، كانت معالجة الأوبئة تحتل جانباً من مشروعه السردي، وفي أهم روايتين من أعماله: «أولاد حارتنا»، و«الحرافيش»، فعلى مدى قرنين من الزمن تدور أحداث «الحرافيش» التي كتبها عام 1977 في عشر حكايات، وتحكي عن «عاشور الناجي»، وعائلته، وأحفاده الذين عاشوا في حارة مصرية، وكل واحدة من حكاياتها، تعد رواية في حد ذاتها، لتشكل ملحمة ممتدة في الزمن، ومن النادر ألا تقع في الملاحم الأدبية كوارث كالوباء، والزلزال، والمجاعة.

كان عاشور الناجي رجلاً يعمل من أجل قوت يومه، وتربية أولاده، قبل أن يجتاح الحارة وباء قاتل، فيأتيه شيخ في المنام يأمره بالرحيل عن بيته، والخروج إلى الخلاء، حتى ينجو، هو ومن معه، ولم يصدقه أحد، واتهموه بالجنون، فرحل وحيداً مع ابنه الصغير، وعاش حياة صعبة، لكنه عاد من جديد إلى الحارة، بعد انتهاء الوباء، ليجد أن المرض أنهى حياة الجميع، بينما هو الوحيد الذي نجا، لذلك سمي عاشور الناجي.

«الناجي» أحد شخصيات «الحرافيش» المؤسسين لعالم الحارة التي ضربها الوباء، كما أنه أبو الفتوات، مجهول الأب، الذي وهب قوة جسدية، صار بها فتوة، وحين عاد بعد الوباء، ولم يجد أحداً في الحارة، سكن في فيلا كانت لأحد الأثرياء، وحين بدأ الناس يعودون إلى بيوتهم، فرض عليهم نظاماً صارماً، قائماً على فرض الإتاوات على الأغنياء لمساعدة الفقراء.

على الهامش

أغلب الأعمال الأدبية تناول موضوع الأوبئة على هامش الأحداث، فالأعمال الكبرى أبرزت الجانب الإنساني الذي يترافق مع انتشار وباء ما، ما أعطاها عالميتها، وكان الروائي الراحل إدوار الخراط لديه رأي يقول: «إن الأوبئة التي عصفت بالعالم منذ عقدين، لم تعثر بعد على روائيين من طراز ألبير كامو، الذي كتب عن الطاعون، وأصيب بداء السل وعمره 17 سنة، وماركيز الذي كتب عن الحب في زمن الكوليرا، لأن الناس مشغولون بمقاومة أوبئة أخرى كالفقر والفساد، حتى «الطاعون» لم تكن في حقيقتها عن الفئران، رغم أنها تعج بالميتة منها، على أدراج المنازل وفي الأزقة، وما تسبب بالوباء ليس الفأر، بل الإنسان الذي لم يعد يرى أبعد من أنفه، فالأوبئة والكوارث تعيد ترتيب الأولويات، لأنها ترتبط بحياة الناس».

ويقدم الروائي الفلسطيني غريب عسقلاني، التغريبة الفلسطينية برؤية جديدة، في روايته «أولاد مزيونة»، مستفيداً من التاريخ والسياسة والموروث والفولكلور الفلسطيني والخرافة، يقول في روايته: «اجتاح الوباء البلاد، وحصد الآدميين صغيراً وكبيراً، وعزيزاً وحقيراً، وصار البكاء على الراحلين فسحة أيام أو ساعات من الذهول، لا يدري الخلق من الحامل ومن المحمول، فالوداع يتجدد قبل أن تجف الدموع في الأحداق، الوباء أخذ البركة، وشل الحركة، وقصف الفروع عن الأصول، وترك العائلات مثل الأشجار، بعد مرور عاصفة جائرة، حتى إذا شبع الموت من الموت، رحل الوباء وبدأ العناء، وتفقد الناس من بقي، ومن قضى، ومن اختفى».

وفي عنوان واضح صريح، أصدر الروائي السوري «هاني الراهب» روايته «الوباء» عام 1981 واختيرت ضمن أهم مئة رواية في القرن العشرين، وتحكي قصة عائلة على امتداد زمني أكثر من سبعين عاماً، مع الاستعانة بأحداث تاريخية، وشخصيات ووقائع حقيقية، وهي من أشهر أعمال هاني الراهب، الذي قدم تصوره للمجتمع العربي، كأنه يتنبأ: «خلال مئة سنة، أو خمسين سنة قادمة، سيكون عصر العنف، ضغط الدولة في العالم سيزداد، والخائفون سيخرجون من جلودهم، ويصيرون مادة للعنف، العنف الشامل وطغيان الدولة، سيلغى القانون نهائياً، ويعيدنا إلى وضع همجي، التفكك والانحلال، لكل قيمة وبنية وعلاقة».

أما مواطنه «حنا مينه» فقد كتب روايته «بقايا صور»، وهي الجزء الأول من ثلاثية، كتبها في منتصف السبعينات من القرن الماضي، والراوي فيها هو حنا نفسه حين كان طفلاً، حيث تدور الأحداث في بلدة منكوبة بوباء، قيل إنه الهواء الأصفر، وقيل الطاعون، وأكد آخرون فيما بعد أنه الجوع، حيث انتشرت المجاعة في كل مكان، وانتشر الجرب والعدوى، وظهرت البثور على الأجسام، ومما جاء في الرواية أن: «الزوج دخل غرفته وأغلق الباب نهائياً، ولم يعد يسمح لأحد بالدخول عليه، كان يتناول طعامه من نافذة الغرفة، ويغلقها بعد ذلك، وحرم على الجميع ولوج عتبة الباب، الذي غدا محجراً لمن فيه».

يقول أيضاً: «حسبت الأم أن الإسهال يزول بشرب الماء الساخن، حدثتنا وهي تطهوه (نوع من الحشائش) لنا أنها تعرف مكاناً ينبت فيه بكثرة، وأنها ستقودنا في الصباح لجمع كمية كبيرة منه، وفي الصباح كنا على حالة من الإعياء بسبب القيء والإسهال، ألجأنا إلى الانكفاء في ركن البيت صفر الوجوه، ذابلين كأغصان قطعت وألقيت في شمس تموز، وزاد في هلع الأم ذلك الورم الذي ظهر في وجوهنا، وأطرافنا من جراء بثور الجرب».

المعذبون في الأرض

هناك جانب يكاد يكون خفياً في مسيرة طه حسين، وهو أنه كتب الشعر في بدايات حياته، مدفوعاً بوفاة أخيه بوباء الكوليرا الذي أصاب مصر في صيف عام 1902 وقد ذكر ذلك في الجزء الأول من «الأيام»، فأحد فصول الكتاب يتحدث عن انتشار مرض الكوليرا بين أبناء قريته، وكيف كانت حالة الرعب في عيون الجميع، الموتى بالمئات، والمصابون بالآلاف، ولا علاج سوى تناول بعض فصوص الثوم، وانتظار حكم القدر، كان الموت محتماً عند الإصابة بالمرض، كان أخوه عمره 18 عاماً، طالباً في كلية الطب، كان الأكثر ذكاء والأوفر نبوغاً، وأمل الأسرة ومحور حديثها، لكن اختطفه وباء الكوليرا في سلسلة من دوامات الموت والخوف، التي رسخت في أذهان الجميع قسوة هذا الوباء.

استشراف

من المفارقات أن الكاتب الراحل أحمد خالد توفيق تنبأ في أحد كتبه (الوباء) بظهور فيروس إنفلونزا قاتل في الصين، وصدقت نبوءته، حيث يجتاح الصين الآن وباء كورونا، يقول: «الكابوس الذي يطارد علماء الفيروسات في العالم كله هو أن يعود وباء إنفلونزا عام 1918 الذي أطلقوا عليه اسم (الوباء الإسباني) إلى الظهور، لقد فتك هذا الوباء بثلاثين مليوناً من البشر، أي أكثر من ضحايا الحرب العالمية الأولى، وعملياً، لم ينج إنسان على ظهر الكرة الأرضية من الإصابة به، سواء كانت شديدة، أو خفيفة، قاتلة، أو غير قاتلة».

ويقول: («أين يجتمع الخنزير والدجاجة؟ طبعاً عند كل فلاح صيني، كل فلاح صيني يخفي في حظيرته مختبرا ًخطيراً للتجارب البيولوجية، وفي هذه الحظيرة تنشأ أنواع فيروسات فريدة لم نسمع عنها من قبل، ولهذا لا نسمع عن أوبئة الإنفلونزا المريعة إلا من جنوب شرق آسيا حتى صار للفظة (إنفلونزا آسيوية) رنين يذكرنا بلفظة «طاعون»).

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"