بيونج يانج وواشنطن.. العودة إلى نقطة الصفر

03:18 صباحا
قراءة 5 دقائق
د. أحمد قنديل *

تعبيراً عن إحباطه الشديد من استمرار التعثر في المحادثات النووية مع الولايات المتحدة، حذر الزعيم الكوري الشمالي كيم جونج أون من اتخاذ إجراءات «صادمة» و«مروعة» تجاه واشنطن، مشيراً إلى أن بلاده ستكشف قريباً «سلاحاً استراتيجياً» جديداً للعالم، مما يعزز من رادعه النووي تجاه «أسلوب العصابات» الذي تنتهجه واشنطن في التفاوض مع بيونج يانج.
جاء هذا التحذير بعد انتهاء «مهلة التفاوض» التي حددتها كوريا الشمالية لإدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في نهاية ديسمبر/كانون الأول الماضي، من أجل الاستجابة لمطالب بيونج يانج فيما يتعلق بتخفيف العقوبات عليها وإعطائها ضمانات أمنية، وهي المطالب التي رفضتها واشنطن، طوال الشهور الماضية، مما أدى إلى تعثر المفاوضات بين البلدين حول نزع السلاح النووي في شبه الجزيرة الكورية.
وقد أعلن الزعيم الكوري الشمالي أيضاً أن بلاده أنهت الوقف الاختياري للتجارب النووية وتجارب الأسلحة الباليستية العابرة للقارات، والذي استمر لحوالي 17 شهراً منذ عام 2018، مؤكداً أمام اللجنة المركزية لحزب العمال الحاكم، أن بلاده مستعدة لمواصلة العيش في ظل نظام عقوبات دوليّ، كي تُحافِظ على قدرتها النووية.
وتجدر الإشارة إلى أن هذا الوقف الاختياري من جانب كوريا الشمالية للتجارب النووية والصاروخية منذ عام 2018 كان مصدراً لفخر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عند الحديث عن إنجازاته الدبلوماسية في مجال السياسة الخارجية. وفي ضوء ذلك، يؤكد عدد من المراقبين أن قيام بيونج يانج بإجراء تجربة صاروخية أو نووية كبيرة في الأيام القادمة، مما قد يمكنها من امتلاك سلاح نووي قادر على الوصول إلى الأراضي الأمريكية، سيكون بمثابة «صفعة قوية» لأحد الأهداف الرئيسية للسياسة الخارجية للرئيس الأمريكي ترامب، الرامية لنزع البرامج النووية والصاروخية لدى كوريا الشمالية، وهو الأمر الذي قد يؤثر، بدرجة أو أخرى، في نتائج الانتخابات الرئاسية القادمة في الولايات المتحدة، والمقرر عقدها في نوفمبر/تشرين الثاني القادم.
تهديد أمريكي
ولذلك لم يكن غريباً أن يهدد الرئيس الأمريكي، خلال حضوره قمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) في لندن مؤخراً، باللجوء إلى القوة العسكرية إذا تراجعت بيونج يانج عن التزاماتها الدولية بخصوص برنامجها النووي وصواريخها الباليستية. كما حذّر ترامب أيضاً كوريا الشمالية من أنها قد «تخسر كل شيء» بسبب عدوانيتها تجاه الولايات المتحدة، وعدم تخليها عن سلاحها النووي.
ومن جهته، عبّر الرئيس الكوري الشمالي عن فقدان الثقة في الإدارة الأمريكية الحالية، قائلاً إن واشنطن «أجرت عشرات التدريبات العسكرية المشتركة (مع كوريا الجنوبية) التي كان الرئيس (دونالد ترامب) وعد شخصياً بوقفها، وأرسلت معدات عسكرية عالية التقنية إلى الجنوب (كوريا الجنوبية)، وصعدت العقوبات علينا». كما أن الرئيس كيم لابد أنه يشعر بالإهانة بعد فشل قمة هانوي مع الرئيس ترامب في فبراير/ شباط الماضي؛ حيث انتهت هذه القمة بلا نتائج، رغم أن كيم قدّم تنازلات ملموسة، بل وغير مسبوقة، إلى الرئيس الأمريكي، تمثلت في عرضه تفكيك أهم وأكبر المفاعلات النووية لديه، والاستمرار في وقف التجارب النووية والصاروخية. بينما قرر ترامب الانتظار؛ للحصول على إشارات ملموسة أن كوريا الشمالية ستتخلى فعلاً عن ترسانتها النووية والصاروخية دون تقديم أية تنازلات على الإطلاق.

«لعبة ترامب»

ومما يفاقم من أزمة الثقة بين الرئيسين أن قادة كوريا الشمالية يبدو أنهم وصلوا إلى قناعة مضمونها أن واشنطن ليست في عجلة لإبرام اتفاق معهم، في ضوء «لعبة ترامب»، التي تقوم على حصول الولايات المتحدة على كل المكاسب من تخفيض التوتر العسكري في شبه الجزيرة الكورية، فيما «لا تحصل كوريا الشمالية على أي شيء». وهذه اللعبة إذا استمرت على ما هي عليه، من وجهة نظر الكوريين الشماليين، فسوف تؤدي إلى حدوث انهيار اقتصادي شامل في البلاد في المدى المنظور. وقد تأكد هذا التقدير بعدما حذر الزعيم الكوري الشمالي القادة الرئيسيين لحزب العمال الحاكم في اجتماعهم الأخير من أن البلاد تشهد «وضعاً اقتصادياً خطِراً»، نتيجة الاستمرار في فرض العقوبات الاقتصادية، وهو الأمر الذي سوف يترتب عليه «تفاقم الأزمة الغذائية، والتراجع الحاد في التجارة الخارجية، وعودة العمال الكوريين الشماليين من الخارج».

اعتبارات رئيسية

ومع كل ذلك، يستبعد كثير من المراقبين أن تقوم كوريا الشمالية في المدى المنظور بإنهاء حالة التوقف الاختياري عن تجاربها النووية والصاروخية بعيدة المدى، (خاصة تلك التي يتم إطلاقها من الغواصات، والقادرة على حمل رؤوس نووية متعددة ومستقلة) في ضوء عدة اعتبارات رئيسية، لعل من أبرزها ما يلي:
* أولاً، أن الرئيس الكوري الشمالي يستفيد من الجمود الدبلوماسي الحالي مع واشنطن في توسيع قدراته العسكرية، من خلال تكثيف اختبارات الأسلحة النووية قصيرة ومتوسطة المدى. وهذه الأسلحة قادرة على إصابة «أهداف موجعة» للقوات الأمريكية المتمركزة في اليابان وكوريا الجنوبية. وتشير التقديرات الحالية إلى أن الترسانة النووية لكوريا الشمالية تشتمل على ما بين 40 إلى 50 قنبلة نووية وأنظمة إيصال مختلفة، بما في ذلك الصواريخ التي تعمل بالوقود الصلب والمصممة للتغلب على أنظمة الدفاع الصاروخي، والصواريخ الباليستية طويلة المدى، والقابلة للتطوير من أجل الوصول إلى البر الرئيسي للولايات المتحدة.
* ثانياً، أن التصعيد العسكري الشديد مع واشنطن بإجراء تجارب نووية أو صاروخية باليستية بعيدة المدى وقادرة على الوصول إلى الأراضي الأمريكية، لن يؤدي على الأرجح إلى الحصول على تنازلات ملموسة من جانب الرئيس ترامب في العام الحالي، خاصة أنه مقبل على الانتخابات الرئاسية في نوفمبر/تشرين الثاني القادم، كما أنه مقبل على محاكمة بشأن عزله بسبب تعاملاته مع أوكرانيا.
* ثالثاً، قد يولد إجراء بيونج يانج لتجربة عسكرية كبيرة، مثل اختبار نووي أو صاروخ باليستي طويل المدى، رداً أمريكياً قاسياً، يتمثل في شن هجوم عسكري شامل يطيح بالسلطة الحاكمة في البلاد. كما أنه قد يؤدي أيضاً إلى فقدان بيونج يانج مساندة الصين وروسيا، أقرب حلفائها الدبلوماسيين والاقتصاديين. وكانت موسكو وبكين قد قدمتا الشهر الماضي مقترحاً إلى مجلس الأمن الدولي من أجل تخفيف العقوبات المفروضة على كوريا الشمالية، تمهيداً لتقدم البلاد نحو نزع السلاح النووي.
وفي ضوء كل هذه الاعتبارات، من المتوقع أن يفضل الرئيس الكوري الشمالي التريث في تطوير برامجه النووية والصاروخية خلال الفترة القادمة، إلى أن يتضح ما إذا كان ترامب سيترأس الإدارة الأمريكية الجديدة أو شخص آخر.
ومما يعزز من هذا الاحتمال أن الرئيس كيم لم يعطِ أي إشارة واضحة إلى توقيت استئناف الاختبارات النووية والصاروخية، بل إنه ترك الباب مفتوحاً للمفاوضات في نهاية المطاف. كما أن الرئيس الأمريكي ونظيره الكوري الشمالي يبدو أنهما «يحبان» بعضهما، وتجمعهما علاقة جيدة جداً، حسبما يؤكد الرئيس ترامب.

* خبير العلاقات الدولية والشؤون الآسيوية.
مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"