الانتشار النووي ..مستقبل غامض

02:30 صباحا
قراءة 5 دقائق
د. محمد شوقي عبد العال

في العشرين من أكتوبر/ تشرين الأول، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، أن بلاده ستنسحب من اتفاقية 1987 بشأن الحد من الصواريخ النووية المتوسطة وقصيرة المدى بين بلاده والاتحاد السوفييتي السابق، والتي تتعهد فيها الدولتان بعدم صنع، أو تجريب، أو نشر أية صواريخ باليستية، أو متوسطة، أو قصيرة المدى، وتدمير كل منظومات الصواريخ التي يتراوح مداها المتوسط بين 1000 - 5500 كيلو متر، ومداها القصير بين 500 - 1000 كيلو متر، وهي الاتفاقية التي خلفت فيها روسيا الاتحادية الاتحاد السوفييتي إعمالاً لقواعد التوارث الدولي للمعاهدات، بسبب انتهاك روسيا لها، على حد قوله.
التهديد الأمريكي بالانسحاب من اتفاقية الصواريخ النووية المتوسطة لا يخرج عن التوجه العام لإدارة ترامب في التحلل من الالتزامات الدولية، وضرب عرض الحائط بها، على نحو ما فعلت في قضية الاعتراف بالقدس عاصمة ل»إسرائيل»، ونقل السفارة الأمريكية إليها، على سبيل المثال، وفي الانسحاب من الاتفاقات الدولية الثنائية، ومتعددة الأطراف، كما تم في حالة اتفاقية النافتا، واتفاقية باريس للمناخ، ومنظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم، «اليونسكو».
غير أن التهديد بالانسحاب من اتفاقية 1987 هذا هو أخطرها جميعاً، من دون أدنى شك، بالنظر إلى ما قد يترتب عليه من آثار على صعيد سباق التسلح النووي، وما قد يؤدي إليه من اندلاع حرب باردة جديدة على قمة النظام الدولي القائم. لا سيما إذا أخذنا في الاعتبار أن التهديد الأمريكي هنا إنما يطال كلاً من روسيا الاتحادية، والصين كذلك، كما يأتي في أعقاب ما أعلنه الرئيس ترامب قبل عدة أشهر، من إنشاء قوات فضائية، فضلاً عن حالة التوتر الشديد في العلاقات الروسية الأمريكية لأسباب عدة، من بينها الوضع في سوريا، والوضع في شبه جزيرة القرم، وادعاءات التدخل الروسي في الانتخابات الأمريكية، وغيرها، والحرب التجارية الضروس بين الولايات المتحدة والصين، وما تعكسه من صراع على السيطرة والنفوذ والقوة الاقتصادية بين الدولتين اللتين تقودان الاقتصاد العالمي.
وقد نفى المتحدث الرسمي باسم الكرملين بشدة، أن تكون روسيا انتهكت الاتفاقية، مشيراً إلى أنه على العكس فإن روسيا ترى أن الولايات المتحدة هي التي تخرق الاتفاقية بنشر منظومات مضادة للصواريخ التي يمكن استخدامها لمدى قصير، أو متوسط. ووصفت روسيا، على لسان نائب وزير خارجيتها، هذا التهديد الأمريكي بأنه يمثل «خطوة خطيرة»، وأنه «إذا واصل الأمريكيون الخروج من جانب واحد من الاتفاقيات والآليات الدولية المختلفة فلن يبقى لنا سوى أن نتخذ تدابير ذات طابع عسكري تقني»، معتبراً أن الدافع الأساسي للرئيس الأمريكي في إعلان الانسحاب من المعاهدة هو «حلمه بعالم أحادي القطب». وكان مدير إدارة شؤون عدم الانتشار والرقابة على الأسلحة بوزارة الخارجية الروسية أعلن في العاشر من أكتوبر/ تشرين الأول، أن قيام الولايات المتحدة الأمريكية بنشر منصات إطلاق طراز «إم - ك41» على أراضي كل من رومانيا وبولندا يتعارض مع اتفاقيات التخلص من الصواريخ المتوسطة وقصيرة المدى.
وهكذا، فقد أثار تهديد الرئيس الأمريكي بالانسحاب من الاتفاقية الكثير من التساؤلات حول مستقبل التسلح النووي بين الدولتين، وإمكانية العودة مجدداً إلى مناخ الحرب الباردة، وسباق التسلح النووي، والتي ستلقي بظلالها من دون أدنى شك على أوروبا، والتي تعتبر هذه الاتفاقية بمثابة جزء من أمنها القومي، حيث كانت الاتفاقية المذكورة قد وضعت حداً لأزمة خطيرة اندلعت في ثمانينات القرن الماضي بسبب نشر الاتحاد السوفييتي آنذاك صواريخ إس.إس-20 النووية التي كانت تستهدف عواصم دول أوروبا الغربية الحليفة للولايات المتحدة، وترتب عليها سحب أكثر من 2600 صاروخ نووي تقليدي من الأنواع القصيرة والمتوسطة المدى. وهو ما دعا الدول الأوروبية إلى المسارعة بمطالبة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بالتراجع عن قرار الانسحاب من الاتفاقية هذا الذي يهدد أمنها القومي، لاسيما أنه سيسمح لروسيا بإنتاج صواريخ نووية من دون رقابة بحكم الاتفاقية.
ويري كثير من المحللين الاستراتيجيين أن انسحاب الولايات المتحدة من اتفاقية الحد من الصواريخ المتوسطة وقصيرة المدى هذه، سيؤدي إلى تصعيد التوتر على المستوى العالمي، لاسيما في ما يتعلق بالأبعاد العسكرية وسباق التسلح. فهذا الانسحاب سيعني إمكانية قيام الولايات المتحدة بنشر صواريخ من هذا النوع في أراضي حلفائها الأوروبيين، وهو ما يمثل - بداهة - تهديداً خطيراً للأمن القومي لروسيا، وهو ما ستضطر معه إلى القيام بإجراءات مماثلة، وستعمل على امتلاك وتطوير الصواريخ المتوسطة، وقصيرة المدى بدورها لحماية أمنها هذا. وبدهي أن مثل هذا السباق، بتداعياته شديدة الخطورة، لن يقتصر على الدولتين الكبيرتين فحسب، وإنما من الأرجح أن يمتد إلى غيرهما من دول النادي النووي.
وجدير بنا أن نشير في هذا السياق إلى أن انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاقية يمثل خطراً داهماً، ليس على أوروبا وروسيا الاتحادية فحسب، وإنما يمتد هذا الخطر إلى كل من الصين وكوريا الشمالية كذلك.
وتفصيل ذلك أن هذا الانسحاب سيمكن الجيش الأمريكي من منافسة الصين في بناء قدرات صاروخية كانت محظورة عليه من قبل وفقاً لأحكام الاتفاقية. وهو ما دفع بعض المحللين إلى القول إن قيام الولايات المتحدة بإلقاء اللوم على روسيا مدعية انتهاك موسكو للاتفاقية لتبرير انسحابها هي منها، ليس إلا غطاءً للهدف الحقيقي لواشنطن من وراء هذا الانسحاب وهو الدخول في حقبة جديدة من المنافسة الاستراتيجية مع الصين في مياه المحيط الهادئ جنوب شرق آسيا، لا سيما أن الصين ليست طرفاً في هذه الاتفاقية، ومن ثم فهي ليست ملزمة بما تفرضه من قيود على إنتاج ونشر مثل هذا النوع من الصواريخ، وهو ما يفتح الباب أمامها واسعاً من دون قيود قانونية في هذا الصدد. فأرادت الولايات المتحدة من انسحابها هذا - حال تنفيذه - أن تتحلل من القيود القانونية، وتشرع في سباق تسلح من هذا القبيل مع الصين، تضغط عليها بواسطته في مناطق نفوذها في جنوب، وجنوب شرق آسيا من جانب، وتستنزف فيه طاقات الصين الاقتصادية، كما فعلت من قبل مع الاتحاد السوفييتي في إطار ما عرف خلال ثمانينات القرن الماضي بحرب النجوم التي كانت - من بين عوامل أخرى - سبباً من أسباب التعجيل بانهيار الاتحاد السوفييتي.
ولعل من المثالب المحتملة لهذا الانسحاب الأمريكي من الاتفاقية، أنه يقدم لكوريا الشمالية دليلاً ناصعاً على عدم وفاء الولايات المتحدة بالتزاماتها الدولية، ومن ثم قد يدفع كوريا الشمالية إلى إعادة النظر في مسألة تسوية ملفها النووي خوفاً مما قد تقدم عليه الولايات المتحدة من انسحاب منه حال توقيعه.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"