العقل بين المتن والهامش

03:38 صباحا
قراءة 5 دقائق
** الشارقة: علاء الدين محمود

رسخ في أذهان الكثيرين في مختلف أنحاء العالم، أن تفوق الغرب وسطوته على العالم، والتاريخ، جاءا بسبب قدرات خاصة به، فالغرب لا يعني الجغرافيا فقط، بل هو العقل، والتفكير المادي، بينما يرزح بقية العالم تحت سيطرة الروحانيات، والأساطير، وقد تناولت الكثير من المؤلفات تلك العلاقة بين الغرب والشرق، فجعلتها في شكل علاقة متقابلة «عقل/ روح»، وأسهم الكثير من الكتاب الغربيين في تعزيز هذه الفرضية، وهنا تبرز مفارقة غريبة، فالغرب الذي ينتصر للعقل، والفكر، والفلسفة، يعود من أجل تأكيد تفوقه للاستعانة بالأسطورة، فيعلن عن أنه الوحيد القادر على التفكير، أي أنه يهزم عقلانيته المفترضة بخطاب غير منطقي تماماً.
«هل العقل للغرب والقلب للشرق»؟ ذلك ما طرحه مهدي عامل، في تعليقه على كتاب «الاستشراق» لإدوارد سعيد.. كان أكثر من سؤال، بل صرخة تحمل في طياتها ثورة من الاستنكار، والغضب على مثل هذا التقسيم الذي يصنع جغرافيتين مختلفتين في طرق التفكير، وعاداته، وتقاليده، وموروثه، تعتقل كل من يحاول التمرد عليها في الغرب لرسوخها، وهيمنتها، وهذا ما كان يحاول أن يقوله إدوارد سعيد، عندما ذكر أن فيلسوفاً بحجم كارل ماركس مهما فعل لم يكن قادراً على الخروج على «المتاح أمامه من اللغة الأيديولوجية»، فعلى الرغم من تعاطف ماركس مع البشر في الهند، وكل العالم؛ إلا أنه لم يخرج عن طرق التفكير الغربية في الإنسان غير الغربي عندما تحدث عن «دور إنجلترا التنويري» وأثر استعمارها في «إعادة آسيا للحياة» مرة أخرى؛ أي أعادتها في نظر سعيد عبر نفخ روح الثقافة الغربية فيها، كأن سعيد يحاول في هذه الأطروحة، رغم نقده للاستشراق، أن يؤكد على هيمنة الغرب وتقاليده في التفكير، الأمر الذي أثار حفيظة مهدي عامل الذي وجد أن سعيد قد وقع في الخطأ نفسه الذي أراد أن ينتقده، وهو أن الغرب ينظر إلى الشرق نظرة الآخر الغريب، أو ما يعرف بثنائية الذات والآخر، لكن سعيد بحسب مهدي عامل لم يخرج من طرق التفكير الغربي نفسه، فقام بخلق مقابلات جديدة بين الغرب والشرق، وهو ما يسميه عامل بقلب الاستشراق عند إدوارد سعيد.
ويؤكد عامل أن صناعة المقابلات هي نوع من الوهم الأيديولوجي ليس إلا، هي التصورات الخادعة التي تتوهمها شعوب وأمم حول ذاتها وقدراتها الخارقة، بل إن كثيراً من المفكرين الغربيين قد تخلصوا من هذه التركة الثقيلة في التفكير، من بينهم ماركس المفترى عليه نفسه، من قبل سعيد الذي ينسى أن الرجل قد غادر بمحض إرادته محطة عمانويل كانط، بكل ثقلها الذي يرى بتفوق العقل الغربي، وعظمة الحضارة الغربية، واختط لنفسه طريقاً مغايراً تماماً ومناقضاً، ولا ننسى كذلك لوكاش، وبيير بورديو عالم الاجتماع الفرنسي وصاحب المؤلف العظيم «بؤس العالم»، الذي يستقصي حياة غير الغربيين من اللاجئين في أوروبا، وينتصر لإنسانيتهم، وثقافتهم، وطرق تفكيرهم.
العديد من المفكرين الغربيين عملوا على ترويج «تفوق الغرب»، ربما بصورة غير مباشرة، لكنها تتجه نحو النتيجة الغريبة نفسها، وهي محاولات تسند لنفسها العلمية لإثبات أمر غير عقلاني، الأمر الذي يصبغ عليها مسحة كاريكاتيرية ساخرة وربما ساذجة في الوقت نفسه، رغم الترسانة البحثية التي تختبئ خلفها.
ويحاول عالم الاجتماع الأمريكي ريتشارد أي نيسبت، أن يلقي بنا في قلب الجنون ثم يقنعنا أن تلك هي العقلانية، ففي كتابه «جغرافية الفكر»، يقدم نظرية كاملة تقطع بأن لقاء الشرق بالغرب أمر مستحيل، وعوضاً عن أن يقول هذا الأمر صراحة فهو يضعنا أمام دراسات ميدانية أجراها على مجموعات كبيرة متحدرة من أمريكا وآسيا، رغم أن مادته الأساسية تتمحور حول أمثلة من الصين واليونان القديمتين، فهو يتناول ثقافة المجتمعين الصيني واليوناني منذ نشوء المدينة، حتى عصرنا هذا، ويعود في بعض الأحيان إلى ما قبل نشوء المدينة من أجل تعزيز نظريته الاجتماعية في إثبات الفارق الذي يجعل من هذين المجتمعين نقيضين غير قابلين للتقارب، ويقدم العديد من الأمثلة
التي تؤكد على استحالة التقاء هاتين الثقافتين، مبرراً ذلك بأن الهوة أعمق من أن تردم بالعواطف، فهو يرى أن هنالك تناقضاً بين عالمين مختلفين في كل شيء، في طرائق التفكير والنظر للوجود والعالم، فالناس في الشرق يهتمون بالتكافل والعمل الجماعي، بينما يتجه الغرب نحو مبدأ الاستقلالية، حيث الذات المستقلة القادرة على اختيار طريقها ورؤاها بعيداً عن خيارات المجتمع، بينما في الثقافة الشرقية ليست هنالك فردانية، بل مجتمع يختفي فيه الفرد، ثم يذهب بأمثلته إلى عالم تربية الأطفال، فالطفل في الثقافة الغربية وحال ولادته يوضع في مكان خاص، في غرفة منفصلة، في حين يحاط الطفل المولود حديثاً في المجتمعات الشرقية بأفراد الأسرة كلها، ويبقى تحت الرعاية طيلة الوقت، فالذات الشرقية مندمجة في المجموعة، والذات الغربية مستقلة منذ البداية.
وفي الكتاب يرى أي نيسبت أن للصينيين القدماء ولعاً بالتجريد النظري المنفصل عن القيمة العملية، حيث أنتجوا الكثير من التقانات التي لم يعرفها الإغريق، ولكنهم لم يمتلكوا فضولا معرفياً تجريدياً كبيراً، فالعالم بالنسبة للإغريق بسيط، في حين نظر الصينيون إلى العالم على أنه معقد، يتكون من جواهر عدة متفاعلة، متبادلة التأثير، ولا سبيل إلى التعامل معه إلا بروح التناغم والتكافل والنظرة إلى السياق الكامل.
المفكرون الآسيويون من جهتهم، بحثوا كثيراً في مسألة ادعاء الغرب تفوقه الخاص، ومن أبرز الذين تصدوا لهذه القضية الدبلوماسي والمفكر السنغافوري ذو الأصول الهندية «كيشوري محبوباني»، الملقب ب «توينبي آسيا»، و«ماكس فيبر الأخلاقيات الكونفوشيوسية الجديدة»، عبر كتابه «هل يستطيع الآسيويون أن يفكروا؟»، ويرى محبوباني في كتابه أن الوقت قد حان لآسيا أن تنهض، بل وتقوم بذات الدور الذي كانت تلعبه أوروبا والغرب طوال تلك القرون، فلا شيء يمنع إنسان آسيا من التفكير، فالمقدرة على التفكير والعقلنة ليستا حكراً على جغرافيا معينة، فذلك شيء من الوهم ليس إلا، ولئن تقدم الغرب طوال القرون الخمسة الماضية في قيادة التطور العالمي علمياً، وصناعياً؛ فإن آسيا مع توفر بعض الشروط يمكن لها أن تقوم بتلك المهمة، ويشير الكتاب إلى النهضة التي حدثت في الصين وتايوان وماليزيا وكوريا الجنوبية والهند، الأمر الذي يمكن أن يعمم على جميع دول آسيا، ويطرح محبوباني العديد من الأسئلة على شاكلة: هل الحضارة الغربية حضارة عالمية؟ هل يشجع الغرب على نشر حقوق الإنسان من أجل أسباب تدخل من باب الإيثار؟ وهي الأسئلة التي أراد عبرها تحطيم هذه المركزية الغربية الثقيلة، ويبحث عبرها في الوقت نفسه عن حضارات أخرى شاركت بإسهامات مماثلة لتطوير بني الإنسان، وتنميتهم.
ونجد أن حتى بعض رموز اليسار الغربي تتورط في مسألة المركزية الغربية وتفوقها، فعلى سبيل المثال نجد ان سلافوي جيجك، الذي يعتبر من نجوم ورموز اليسار الراديكالي، والمدافع عن المثل الأسمى الشيوعي، قد سقط تماماً أمام قضية اللاجئين في أوروبا، فقد اتخذ مواقف يعتبرها اليسار متماهيةً مع آراء ومواقف اليمين الأوروبي.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"