غزة بين الحصار والتهجير

05:25 صباحا
قراءة 4 دقائق
حلمي موسى


وفق كل التقارير والتقديرات فإن الوضع في قطاع غزة يقترب من الكارثة منذ سنوات ولا يظهر في الأفق تحرك جدي نحو تجنب ذلك. وقد تحدثت تقارير صادرة عن الأمم المتحدة عن أن القطاع يقترب من نقطة اللاعودة بشأن تحوله إلى أرض لا يمكن العيش فيها لاعتبارات مختلفة أهمها تلوث مياهه وتقلص مساحة أراضيه الزراعية وانفجاره السكاني. وتجمع هذه التقارير على أن الاحتلال «الإسرائيلي» هو السبب الرئيسي في إيصال الوضع في القطاع إلى هذه الحال عبر سياسة الحصار والتدمير التي انتهجها منذ إنشاء «إسرائيل» وحتى الآن.
شكل قطاع غزة على مر السنين، بحكم ما يحتويه من بعد ديموغرافي نشأ بسبب احتشاد اللاجئين من باقي أراضي فلسطين على أرضه منذ العام 1948 شوكة في حلق الاحتلال. وقد أجبرت المقاومة الفلسطينية الشعبية المدنية والعسكرية الاحتلال على الانسحاب من القطاع في العام 2005 وتفكيك المستوطنات فيه. وكما يقال في «إسرائيل» فإن الاحتلال «انسحب» من القطاع لكن القطاع «يلاحق» الاحتلال في كل مكان. وهكذا بقي القطاع شوكة في حلق الاحتلال حتى بعد الانسحاب وازدادت حدة هذه الشوكة بعد تنامي التصدي وامتلاك القطاع قدرات مؤذية . ولذلك ارتبكت حكومات الاحتلال المتعاقبة في التعامل مع قطاع غزة مستخدمة في الغالب سياسة القبضة الحديدية التي يدرك كثيرون اليوم أنها لم تكن مجدية ولم تحقق غايتها.

اتهامات وتهديدات

ويتهم معظم قادة الأحزاب في «إسرائيل» حكومة نتنياهو بأنها تتعامل مع القطاع بمنطق ردات الفعل ولا تمتلك أي سياسة واضحة ولا تتأهب لانفجار الوضع الإنساني في القطاع. ويرد وزراء ومسؤولو حكومة نتنياهو على هذه الاتهامات بطرق مختلفة بينها حيناً أنهم أفلحوا في تكريس الردع وحيناً آخر أنهم يتصرفون سراً وعلناً لمنع هذا الانفجار. وبين هذا وذاك يواصلون إطلاق التهديدات بتدمير القطاع وتكبيد أهله خسائر فادحة في الممتلكات والأرواح. وفي هذا السياق كشف أحد المسؤولين «الإسرائيليين» عن أن جانباً من سياسة حكومة الاحتلال في التعامل مع القطاع يتمثل في تشجيع هجرة السكان منه.
وقال المسؤول «الإسرائيلي» إن حكومته مستعدة لتمكين سكان القطاع من الهجرة إلى دول العالم، بل والسماح لهم باستخدام مطاراتها في النقب إذا وجدوا دولاً توافق على استيعابهم. بل أن هذا المسؤول الذي يعتقد أنه رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو شخصياً قال إن «إسرائيل مستعدة حتى لتنظيم انتقال هؤلاء وأن تفتح أمامهم أحد مطارات النقب وتنظم لهم رحلات سفر إلى الخارج». وأضاف أنه «جرت محاولات مع دول معينة (لإقناعها بقبولهم) لكنها لم تنجح».
ولا بد من الإشارة إلى أن الحديث عن تهجير سكان القطاع خاصة والفلسطينيين عامة من أرضهم كان من نمط السياسة التي لا يجري كثيراً الحديث عنها إلا من أوساط اليمين المتطرف. ومؤخراً مع تنامي قوة اليمين المتطرف في «إسرائيل» تزايد الحديث عن هذه السياسة في برامج الأحزاب وفي المساجلات اليومية لها. وكان بين أول من تحدث بذلك علناً العنصري مئير كهانا وبعدها أنشأ الجنرال رحبعام زئيفي حزباً يقوم على فكرة «التراتنسفير». وبعد ذلك تكاثرت الأحزاب اليمينية التي صارت جزءاً من التيار المركزي الحاكم التي تتحدث عن ذلك. وربما أن هذه هي المرة الأولى التي يتحدث فيها مسؤول سياسي رفيع المستوى بهذه الصراحة عن تهجير الفلسطينيين وعن خطوات تمت عملياً على هذا الصعيد.

إصرار على حق العودة

ومعروف أن «إسرائيل» منذ نشأتها عمدت إلى تقليص عدد الفلسطينيين في أرضهم عبر عمليات عسكرية وتضييق اقتصادي وفكري. وقد قامت «إسرائيل» أساساً على نكبة أهل فلسطين بتهجيرهم من أرضهم في العام 1948 ثم بمحاولات إبعادهم عن الحدود ومحاولة إيجاد حلول توطينية لهم بعيداً داخل دول عربية وفي الخارج. وبعد احتلال باقي الأراضي الفلسطينية عام 1967 حاول الاحتلال تنفيذ عملية تهجير سكاني واسعة من القطاع أولاً إلى الضفة الغربية وبعدها إلى العريش.
وانتهج الاحتلال طوال سني حكمه للضفة والقطاع قبل اتفاقيات أوسلو وإقامة السلطة الفلسطينية أسلوب اعتبار كل من يغيب عن الأراضي المحتلة أكثر من عامين فاقداً لحق الإقامة فيها. ونجح عبر هذا الأسلوب في إسقاط حق الإقامة في الأراضي المحتلة عن عشرات ألوف الشباب الفلسطينيين الذين كانوا يخرجون للدراسة أو العمل في الخارج. لكن ذلك لم يخلق عزوفاً عن الهوية الفلسطينية ولم يقلص رغبة حتى الأجيال الصاعدة من العودة إلى فلسطين والإيمان بحقهم في الاستقلال والدولة. وهذا ما أفقد مخططات الاحتلال أحد أهم أهدافها وهو إبعاد الفلسطينيين عن أرضهم وإسقاط حقهم بالعودة إليها.

سجال داخلي

ومن الواضح أن «إسرائيل» تعترف عملياً ونظرياً بفشل سياساتها التي انتهجها حتى الآن بشأن الفلسطينيين وحقهم في أرضهم. وعلى سبيل المثال فإن عدد الفلسطينيين في قطاع غزة في العام 1967 عند وقوعه تحت الاحتلال كان أقل من 400 ألف نسمة. وقد جرت عملية تهجير لعشرات الألوف منهم إلى الأردن والضفة الغربية. وعندما اضطر الاحتلال للانسحاب من قطاع غزة وتفكيك مستوطناته على أرضه كان تعداد الفلسطينيين هناك يزيد على مليون نسمة. واليوم لا يقل تعداد الفلسطينيين في القطاع عن مليوني نسمة يعرف العالم كله أن سبب مأساتهم هو الاحتلال الذي هجر أهاليهم في الأساس من قراهم ومدنهم في العام 1948 ولم يسمح لهم بالتطور المستقل والحر ودمر منشآتهم خلال العقود الماضية.
ورغم وضوح فشل السياسة «الإسرائيلية» في تشجيع الهجرة من فلسطين عامة وقطاع غزة خاصة فإن الاعتراف الصهيوني الجديد سرعان ما اندمج في السجال الداخلي الفلسطيني. إذ حاول البعض أن يحمل سلطة الأمر الواقع القائمة في القطاع مسؤولية هجرة الشباب الفلسطيني. وحاول آخرون استغلال هذا الاعتراف لدفع الفصائل إلى العودة إلى منطق توحيد الصف ومواجهة الاحتلال. ومع ذلك لا بد من الإشارة إلى أن الاعتراف «الإسرائيلي» لم يقدم أي شيء جديد وأن سياسة التهجير والتضييق على الفلسطينيين لترك أرضهم كانت معروفة وهي تصطدم بواقع تمسك الفلسطينيين بأرضهم وبحقوقهم في الأرض المغتصبة. وهذا هو المعنى الحقيقي لمسيرات العودة التي تجري كل يوم جمعة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"