البيت.. المعنى الغائب

02:48 صباحا
قراءة 3 دقائق
محمدو لحبيب

لعل أول ما يخطر ببال أحدنا حين يقرأ أو يسمع أو يرى مفردة البيت، هو التفكير في بناء ما، وفي مسكن ما، وفي حياة تكتنفها أربعة جدران.

إن تطور الحضارة والمعمار في العصر الحديث، وظهور المنشآت السكنية العملاقة كالأبراج، ربما أحدثتْ في وعينا تأثيراً خفياً، بحيث جعل اللغة نفسها تنعكس عندنا في الفهم بطريقة مختلفة، فيصبح البيت مباشرة بناء هندسياً مكوناً من جدران وباب ونوافذ وغيرها، ولا نفكر في المعاني الأخرى كبيت الشَعر الذي يعتبر الخطوة الأولى نحو دخول عالم المجاز والتعبير البلاغي اللغوي الذي يكتسب أحياناً موسيقى لا تخطئها الأذن.

ولعلنا ننسى كذلك بيت الشَعر الذي يحيل إلى أجواء البادية العربية الصحراوية القديمة والمستمرة في عدة مناطق من الوطن العربي حالياّ، حيث يضرب البدوي على أديم صحرائه، خيمة معدة من وبر الإبل يسميها اللغويون ببيت الشَعر، وربما ننسى أو نُسقط من وعينا كذلك المصطلح المعروف بيت القصيد والذي يؤشر في استخدامه اللغوي على الوصول إلى لب المعنى وكنهه.

ويمكن القول أيضاً إن ذلك التأثير الغالب على بعضنا في عصرنا الحالي باستخدام كلمة البيت في منحى واحد هو الذي أشرنا له آنفاً، يأتي من كون أغلبنا لم يتعرف على المعنى الدقيق للكلمة في اللغة، فتراه يخلط في مفهومها بينها وبين المسكن والدار في حين أن لكل كلمة من تلك الكلمات معناها الدلالي المستقل، الذي قد يتقاطع قليلاً مع الأخرى لكنه محدد بشكل دقيق جداً.

فالبيت في اللغة العربية هو المكان الذي يعتاد الإنسان أن يبيت فيه، سواء نام أم لم ينم، ولا يشترط فيه أن يكون مبنياً، ولكن يشترط أن يكون لفرد أو لعائلة صغيرة واحدة لا يشاركهم فيه أحد.

في حين يختلف معنى المسكن عن البيت، ويشترط في الأول أن يسكن فيه الإنسان فترة من الزمن، وكذلك تختلف الدار في المعنى عن البيت، حيث يشترط فيها أن تكون مبنية.

إن البحث عن البيت إذاً من منظور ثقافي يستدعي بطريقة ما وضع إشكاليات معينة نصب أعيننا ونقاشها من قبيل: هل حقاً تؤثر الحضارة باعتبارها النتاج المادي للأفراد والجماعات على اللغة باعتبارها جزءاً أصيلاً من مكونات الثقافة؟ هل يمكن إذاً في فترة معينة قادمة ومع الملامح والتوقعات المدهشة التي يحملها لنا المستقبل، أن يتغير مفهوم البيت عندنا، فنجده يرمز لشيء أو أشياء لا علاقة لها بما نعرفه حاليا؟

ربما عمقتْ الحياة المعاصرة بفعل تغيراتها التكنولوجية وتأثيراتها على الثقافة وعلى اللغة، ذلك المعنى الضيق لكلمة «البيت»، وقصرته على معنى واحد رغم تعدد معانيه في اللغة، وفي الثقافة العربية بشكل عام.

ويمكن القول بشكل عام إن البحث في ماهية الكلمات والمصطلحات ومحاولة تأسيسها على رمال ثابتة في عصرنا الحالي يكتسي أهمية فائقة، بالنظر إلى التغيرات الممكنة التي قد تفرزها تلك الإشكاليات الآنفة الذكر، فاللغة، أية لغة هي كائن لا تدخل عليه كلمات جديدة فقط، بل إنه أحياناً ينقلب مائة وثمانين درجة كما تنقلب كرة اليانصيب، فنجد أنفسنا وقد فقدنا المعنى الذي كنا نعرفه لكلمة ما، لأنها اكتسبت معنى جديداً في الواقع عما كنا نرسمه في أذهاننا.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"