الحب والكوليرا وجهان لمأساة واحدة

مرايا الزمن
05:31 صباحا
قراءة 4 دقائق

قل أن أثار الحديث عن الأوبئة في داخلي شعوراً بالخوف العميق والهلع الحقيقي. ليس فقط بسبب تقدم العلوم واكتشاف اللقاحات المضادة للأوبئة المستجدة، بل لأنني كسواي من البشر أشعر بأن الوباء كالموت تماماً لا يصيب سوى الآخرين، وأن عناية ما لا بد أن تدرأ عني في اللحظة المناسبة ممثل هذا النوع من الاخطار، تماماً كما هو الأمر بالنسبة للزلازل والبراكين التي لا تزال حتى يومنا هذا تتسبب بمقتل الآلاف من البشر كل عام. هكذا اقتصر تعاملي مع الوباء على البعد المجازي للمفردة وعلى ما يمكن أن تضيفه الى قاموسي الشعري من أبعاد ودلالات، في حين أن التاريخ القريب والبعيد يشير الى أن الأرض لم تستطع أن تضاعف سكانها بنسب عالية إلا في القرنين الأخيرين، لأن الأوبئة والحروب والكوارث الطبيعية كانت تتكفل دائماً بتقليص نسبة الزيادة الى حدودها القصوى في القرون التي سبقت.

على أن ذلك لا يعني بأي حال شعوراً غامراً بالطمأنينة والأمان مادامت الفيروسات المسببة للأوبئة أو المتأتية عنها قادرة على تجديد نفسها باستمرار وعلى التكيف مع كل حضارة وليدة أو تغير طارئ في طرائق العيش. بل إن مجريات الأمور في السنوات الأخيرة لا يمكن إلا أن تفاقم تلك الفوبيا الجماعية التي تحكم سكان هذا الكوكب وهم يرون صورة الموت موزعة بين أكثر من كابوس ولا يكادون يفلتون من خطر الايدز والجمرة الخبيثة وانفلونزا الطيور وحمى الوادي المتصدع وغير ذلك من التسميات التي تلامس الشعر في بعدها الاستعاري حتى يقعوا بغتة في براثن انفلونزا الخنازير التي رفعتها منظمة الصحة العالمية الى درجة الخطورة القصوى بسبب انتشارها السريع والمتفاقم. وإذا كان لكل طائر أو حيوان أو نبات انفلونزاه الخاصة به فستكون الطرافة المتأتية عن هذه التسميات أمراً ثانوياً تماماً بالقياس الى التراجيديا الملحمية التي تنتظر بني البشر في أزمنتهم المقبلة.

إن أكثر ما يؤلم بالنسبة للأوبئة والكوارث الطبيعية الأخرى هو كونها تضرب الفرادة الانسانية في صميمها وتحيل تلك الجوهرة التي تسمى الحياة الى مجرد حدث عارض أو مصادفة بيولوجية محكومة بالعبث والانحلال وغياب المعنى. إذ فجأة ومن دون مقدمات يأتي وباء ما أو حرب غاشمة أو زلزال مدمر لكي يقصف الأعمار في ريعانها من دون تمييز بين الشيخوخة والصبا والطفولة، ولكي يمحو مدناً وقرى وسلالات بكاملها مسلماً الى الهباء الكامل كل ما كان يختزنه البشر في دواخلهم من أحلام ومشاريع وخطط للمستقبل، وكل ما كان يربط بينهم من صداقات وأنساب وصلات رحمية وقصص حب. هكذا تنعدم الفواصل بين الكائن الانساني ومثيله الآخر من جهة، كما تنعدم بينه وبين سائر الكائنات الحية التي تنفق على الطرقات من دون أن يأبه لموتها أحد، وهو لا نزال نرى صوره وملامحه عبر كتب التاريخ كما عبر الأفلام الوثائقية ووسائل الإعلام الحديثة التي تنقل لنا صور المقابر الجماعية ومشاهد الجثث المكدس بعضها فوق بعض بفعل المجازر أو الكوارث أو الأوبئة الفتاكة.

لم يكن الأدب العالمي وبخاصة الرواية، بعيداً عن التفاعل مع هذا النوع من الكوارث، بل لطالما رأى فيه الوجه الفاجع والسوداوي وغير العادل للحياة. يكفي أن أستعيد في هذه العجالة رواية الطاعون لألبير كامو، حيث تتحول مدينة وهران الجزائرية المضروبة بالطاعون الى معادل حقيقي للكابوس أو الجحيم، وحيث يرى البطل الناجي في نهاية الرواية بأن جرثومة الطاعون لا تموت ولا تختفي أبداً، بل هي تنتظر بصبر وأناة من يوقظ جرذان المرض من سباتها المؤقت. الكاتب الألماني توماس مان يربط من جهته بين الوباء الفردي الذي يضرب الانسان من الداخل والوباء الجماعي الذي يجيء من الخارج ليضع المصائر عند نهاياتها الفاجعة. ففي روايته المعروفة موت في البندقية ينصرف بطله العجوز عن اتمام عمله الروائي بعد أن يلتقي في النبدقية بفتى يافع وبالغ الذكاء يمثل بالنسبة اليه كل ما خسره من فتوة وكل ما تعجز اللغة السقيمة عن بلوغه. وإذ يتبع الكاتب العجوز فتاة عبر أحياء البندقية وأزقتها القديمة يتعرض للإصابة بداء الكوليرا الذي فتك بالكثيرين من ابناء المدينة المتداخلة مع البحر بشكل فريد. هكذا قدر لبطل توماس مان أن يحل عبر الموت وحده معضلة افتتانه بالذكاء والشباب المتجسد في فتاه المراهق والذي لم يكن ليمتلكه أو ليستعيده مرة ثانية بأي وجه من الوجوه.

لم يكن الكاتب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز بعيداً بدوره عن هذه المواجهة الرمزية المتجددة بين الحب الذي يصفه هلدرلن في احدى قصائده بأنه مرض مخجل وبين الكوليرا التي تعصف ببلده كولومبيا في روايته الرائعة الحب في زمن الكوليرا. لكن الفرق شاسع بين روايتي توماس مان وماركيز. ذلك أن الكوليرا هي التي تنتصر عند الأول في حين أن الحب الذي جمع بين بطلي ماركيز العجوزين بعد ستين عاماً على فراقهما القسري هو الذي انتصر في النهاية. بل إن البطلين يعمدان الى ايهام الناس بإصابتهما بداء الكوليرا لكي يخلدا طوعاً وبحيلة ذكية الى عزلة الحب وكنفه الرومنسي. سيقدر لهذه المواجهة بين الطرفين أن تتم فوق ساحات كثيرة من بقاع الأرض. وليست قصة الحب المؤثرة التي ربطت بين الفارس والشاعر الاردني نمر العدوان وحبيبته وضحة التي قضت هي الأخرى بداء الكوليرا سوى تجسيد آخر للمواجهة بين الحب والموت التي لن يقدر لها أن تنتهي إلا بانتهاء الحياة على الأرض.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"