البخاري .. إمام أهل الحـديـث

قامات إسلامية
03:03 صباحا
قراءة 5 دقائق
بقلم: محمد حماد

ازدهرت مدارس الفقه الإسلامي، وكانت كل مدرسة فقهية قد خرَّجت تلاميذ صاروا أعلاماً دونوا أصول مذهبهم، ومسائل فقههم، وتبلورت هذه المدارس في اثنتين: مدرسة الحديث، ورأسها مالك وتلامذته ومن على شاكلته كالليث وغيره، ومدرسة الرأي ورأسها أبو حنيفة ثم تلامذته، ثم جاء الشافعي فدمج المدرستين فأخذ من مدرسة الحديث توسعها الكبير في تتبع الأحاديث النبوية وآثار الصحابة كي يسدوا بها الحاجة للإفتاء في أي مسألة فقهية وفقاً للأحاديث والآثار، وأخذ من مدرسة الرأي التوسع في الاجتهاد فيما لم يرد فيه نص نبوي أو أثر عن الصحابة.
وقد عمد بعض الصحابة مبكرًا إلى تدوين الحديث وجمعه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم كابن عباس الذي كان يدور على الصحابة ليسألهم، ويكتب ما يحدثونه به من أحاديث سمعوها من النبي صلى الله عليه وسلم، وأراد عمر بن الخطاب أن يكتب الحديث، فاستشار الصحابة في ذلك، فأشاروا عليه بأن يكتبها، إلا أنه تراجع خشية أن يُكبّ الناس عليه، ويتركوا القرآن، ولم يمض الكثير من الوقت حتى اعتنى التابعون بجمع الحديث وكتابته، وكذلك اهتم الخلفاء والأمراء الأمويون على المستوى الرسمي بجمعه، فأمروا بعض علماء المسلمين مثل أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وابن شهاب الزهري بجمع الحديث.
وانقضى عصر الصحابة، وصار الناس متعطشين إلى ما يؤثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه، وانتشرت المرويات، وكثر الضعفاء وغلاة الرواة الذين تعمدوا الكذب على رسول الله، أو تساهلوا بحسب جرأتهم في التدليس والترويج، واختلط الحابل بالنابل. وبذل العلماء عناية فائقة بتنقية الحديث مما أصابه من وضع الوضّاعين عن طريق العناية بحفظه وتتبّع الأسانيد والبحث في أحوال الرجال، ثم أخذوا يشرِّحون الرجال، فيُجرِّحون بعضًا، ويُعدِّلون بعضاً فاستدعى ذلك منهم أن يلتمسوا الأحاديث وأسانيدها مهما كلّفهم ذلك من رحلات شاقة وطويلة.

الجامع الصحيح

بدأت محاولات جمع وترتيب الحديث في منتصف القرن الثاني الهجري على يد الربيع بن صبيح ثم سعيد بن أبي عروبة، تلاها ما جمعه ابن جريج في مكة، ومالك في الموطأ في المدينة، والأوزاعي في الشام، وسفيان الثوري في الكوفة، وحماد بن سلمة في البصرة ومعمر بن راشد الصنعاني في اليمن والليث بن سعد في مصر بما تيسّر لهم من أحاديث، وقد صنّف هؤلاء ما جمعوه ورتّبوه وبوّبوه بحسب الأبواب والمواضيع الفقهية، وضمّوا إليها بعض أقوال الصحابة وفتاوى التابعين. ثم انتقل تدوين الحديث إلى طور آخر أكثر تطوّراً بازدهار تأليف الكتب في عصر هارون الرشيد، وتشعّب وتنوّع، وبلغ التدوين عصره الذهبي بحلول القرن الثالث الهجري الذي ظهرت فيه كتب الصحاح، وكان البخاري هو أول من جمع الصحيح من الحديث في مؤلفه العظيم «الجامع المسند الصحيح المختصر من أُمور رسول الله صلى الله عليه وسلّم وسننه وأيامه» المعروف باسم صحيح البخاري، الذي اطمأنت إليه الأمة، وجعلته في مكانة عالية، وأجمع العلماء من بعده على اعتباره أصح كتاب بعد كتاب الله عز وجل، وكان العلماء يقرؤونه في المساجد كما تتلى المصاحف.
والتعريف المختصر بالبخاري يشير إلى أنه أحد كبار الحفّاظ الفقهاء، ومن أهم علماء الحديث وعلوم الرجال والجرح والتعديل والعلل عند أهل السنة والجماعة، وله الكثير من المصنّفات أبرزها كتاب الجامع الصحيح، الذي يعد أوثق الكتب الستة الصحاح الذي أمضى في جمعه وتصنيفه ستة عشر عاماً.
وقد أقرّ له أقرانه وشيوخه ومن جاء بعده من العلماء بالتقدّم والإمامة في الحديث وعلومه حتى لقّب بأمير المؤمنين في الحديث. وتتلمذ عليه كثير من كبار أئمة الحديث كمسلم بن الحجاج وابن خزيمة والترمذي وغيرهم، وهو أول من ألّف في تاريخ الرجال. وقد صح أن الإمام مسلم صاحب الكتاب المعروف باسم «صحيح مسلم» أقر بأنه كان ممن استفادوا من البخاري، واعترف بأنه ليس له نظير في علم الحديث، وكذلك عدَّه شيخ الزيتونة الإمام محمد الظاهر عاشور مجدد القرن الثالث الهجري.

نبوغ مبكر

هو محمد بن إسماعيل بن المغيرة بن بردزبه البخاري، وكنيته أبو عبد الله، ولد ببلدة بخارى في 13 شوال سنة 194 ه، وكان أبوه إسماعيل عالماً جليلاً، مات وابنه محمد صغير، وكفلته أمه وسهرت على تربيته، وتعليمه، فشب مستقيم النفس، عف اللسان، كريم الخلق، مقبلاً على الطاعة، وما كاد يتم حفظ القرآن حتى بدأ يتردد على حلقات المحدثين، وأظهر نبوغاً في صغره وهو في الكتّاب، وامتاز بذاكرة قوية، وحفظ الكثير من الحديث ولما يبلغ العاشرة من عمره، ثم صار يتردد على علماء وأئمة بلده الذين أخذ عنهم وصار يراجعهم ويناقشهم، وما إن بلغ السادسة عشرة حتى بدأت رحلته الطويلة في طلب العلم، التي ابتدأها بحجه إلى بيت الله الحرام بصحبة أمه وأخيه.
رحل الإمام البخاري إلى مراكز العلم المهمة في عصره خاصة تلك التي حوت كبار المحدثين في بلاد المسلمين، واستفاد من الشيوخ الموثوق بهم وبأمانتهم، يقول: «كتبت عن ألف وثمانين نفساً، ليس فيهم إلا صاحب حديث»، وسمع ممن لا يحصى عددهم، أشهرهم الإمام أحمد بن حنبل، وإسحق بن راهويه، ويحيى بن معين، وأخذ عنه الحديث خلق كثير في كل بلدة حدث بها، قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: «وأما الآخذون عن البخاري فأكثر من أن يحصروا وأشهر من أن يذكروا، وكان يحضر في مجلسه أكثر من عشرين ألفاً يأخذون عنه».
كان عصر البخاري مملوءاً بالأئمة الأعلام والمحدثين الكبار، وقد عرفوا فضله وعظموه، وأثنوا عليه، قال أحمد بن حنبل: «ما أخرجت خراسان مثل محمد بن إسماعيل»، وشهد له ابن خزيمة فقال: «ما تحت أديم السماء أعلم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من محمد بن إسماعيل».

التاريخ الكبير

صنّف الإمام البخاري وألّف كتباً كثيرة، وقد هيّأه للتأليف والكتابة وأعانه عليها ذكاؤه الحاد، وسعة حفظه، وذاكرته القوية، ومعرفته الواسعة بالحديث النبوي وأحوال رجاله من تعديل وتجريح، وخبرته التامّة بالأسانيد من صحيح وضعيف. وقد وصلنا بعض كتبه وطُبعت بينما لا يزال بعضها مفقوداً. وجُلّ مصنّفاته وكتبه لا تخرج عن السُنّة والحديث وعلومه من رواية ودراية ورجال وعلل.
وإلى جانب صحيحه له كتاب «التاريخ الكبير»: وهو موسوعة كبرى في التراجم، رتب فيه أسماء رواة الحديث على حروف المعجم، وقد اقترب فيه البخاري من استيعاب أسماء من رُوي عنهم الحديث من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى زمنه. وله أيضا كتاب «التاريخ الأوسط» الذي بدأه بقصة الهجرة إلى الحبشة، وطرف من السيرة النبوية في المرحلتين المكية والمدنية وترجم للمتوفين من الصحابة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ثم المتوفين في عهد الخلفاء الراشدين، ثم تكلّم عن الرواة وأخبارهم ووفياتهم إلى زمنه.
وكان كتابه «التاريخ الصغير»: خاصاً بالصحابة، وهو أول مصنّف في ذلك.
في آخر حياته رجع البخاري من نيسابور إلى مدينته بخارى، واستقبله عامة أهلها، ونثروا عليه الدراهم والدنانير.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"