رواية بتوقيع شبح

03:00 صباحا
قراءة 7 دقائق
** محمد إسماعيل زاهر

تتأسس رواية الروسي جايتو جازدانوف «طيف ألكسندر ولف»، المترجمة مؤخراً، على «الحدوتة» الشهيرة في ألف ليلة وليلة، والمتعلقة بالموت وعدم قدرة الإنسان أن يهرب منه، يحكي ولف ليلينا نيكولايفينا، في لحظة أسى القصة بصيغة أخرى تختلف عن نص الليالي، يقول: «جاء بستاني الشاه إليه ذات يوم، وهو شديد الاضطراب، وقال له: أعطني بسرعة أسرع جواد لديك، سأرحل بعيداً قدر المستطاع، إلى أصفهان، فقد رأيت موتي تواً، بينما كنت أعمل في الحديقة. أعطاه الشاه جواداً، وعدا البستاني مسرعاً إلى أصفهان. خرج الشاه إلى الحديقة فوجد الموت واقفاً هناك، فقال له: لم أفزعت البستاني؟ لم ظهرت أمامه؟ أجاب الموت الشاه: لم أرد أن أفعل ذلك. دهشت لرؤية بستانيك هنا. ففي كتابي مدوّن أنني سألقاه اليوم ليلاً بعيداً عن هنا، في أصفهان».
الرواية تبدأ أثناء الحرب الأهلية الروسية، في أعقاب ثورة 1917، بمراهق لم يتجاوز السادسة عشرة، الراوي الذي يسرد بضمير المتكلم، ولن يفصح عن اسمه أبداً، هذا المراهق، يقتل في الحرب، سنعرف لاحقاً أنه ألكسندر ولف، ففي أحد الأيام الهادئة خلال الحرب، خرج ليتجول مع جواده، وفجأة أصابت الجواد رصاصه، جعلته يسقط على الأرض، وبعد أن نهض الراوي وجه مسدسه لذلك الفارس الذي أصاب الجواد، فأرداه قتيلاً، ثم أخذ الراوي حصان القتيل ورحل.
بعد خمسة عشر عاماً تظل الذاكرة ثقيلة على الراوي، فشعوره بأنه قاتل يطارده دوماً، هرب ليعيش الآن في باريس، ويعمل في الصحافة، وذات يوم تقع في يديه مجموعة قصصية بعنوان «آيل كام تومورو»، بداخلها قصة «مغامرة في السهب» تحكي حادثة القتل التي نفذها الراوي في الحرب بحذافيرها بتوقيع «ألكسندر ولف».
المؤلف في هذه «الحدوتة» الخلابة، بمنزلة مهندس الأحداث، فأول مفارقة يمكننا أن نلمحها في هذا النص، أن المجموعة القصصية وقعت في يد الراوي مصادفة، وهي مصادفة ستتكرر مع أحداث أخرى، وهو ما يدفع البعض إلى القول بسرعة: إن الأحداث مفتعلة، ولكن هذه المصادفات مقصودة من المؤلف الذي يهيمن باستبداد على النص، يقلب جازدانوف كل لعبة السرد عندما يقول على لسان ولف: «ما من غواية أكبر من غواية إجبار الأحداث على أن تجري كما تريد».
تتحول «مغامرة في السهب» إلى مصير يطارد الراوي، وهو ما يدفعه إلى كتابة رسالة إلى دار النشر الإنجليزية التي أصدرت المجموعة القصصية، حتى إنه يسافر إلى لندن ليقابل صاحب الدار، ويخبره بأهمية المجموعة وصاحبها بالنسبة له، بل يحكي له خلفيات القصة بأكملها، ويؤكد له الناشر أن مستر ولف إنجليزي لم يغادر لندن قط.
يعود الراوي إلى باريس، ليتسكع في شوارعها، وفي أحد الأيام يدخل إلى مطعم ليتناول طعامه، فيستوقفه أحد الروس وهو يغني، وبعد أن يتعرف إليه يجد معه المجموعة القصصية نفسها، في مصادفة ثانية، ويعرف الراوي من هذا الروسي، ويدعى فوزنيسنسكي، أنه صديق ولف، ويعلم قصة ولف بأكملها، فهو لم يمت في الحرب، لحقه فوزنيسنسكي وصديق آخر، وذهبا به إلى المستشفى، وهناك تمكن الأطباء من إنقاذ حياته، ويعلم أيضاً أن ولف زير نساء، وأنه سيأتي إلى باريس قريباً ليزور فوزنيسنسكي.
يتعرف الراوي في تلك الأثناء إلى يلينا نيكولايفينا، تلك المرأة التي تتطور علاقته بها بسرعة، فتتحول لتكون كل شيء في حياته، والتي كانت متزوجة من أحد المهندسين الأمريكيين، وأنها بعد وفاة زوجها دخلت في علاقات مفتوحة، أكثرها تأثيراً مع رجل روسي، عدمي، تركته على الرغم من تعلقها به بسبب إدمانه المورفين، وهو مهجوس بالموت الذي أخطأه ذات مرة، حيث كان يردد عليها: «سمحت لموتي أن يتخطاني»، وبالموازاة مع ذلك يلتقي الراوي ألكسندر ولف، في اللقاء الأول، يشعر وهو جالس معه أنه إزاء طيف، ولم يجرؤ على إخباره بالحقيقة، ولكنه سيقدم على ذلك في اللقاء الثاني: «أنا من أطلق النار عليك»، وعلى الرغم من ذلك نجد أنفسنا أمام شخص لا يكترث كثيراً، بل يرد عليه: «تخيلتك بصورة مختلفة تماماً، وكم اعتدت فكرة أنك لم تعد بين الأحياء منذ زمن بعيد».
يركز السرد لاحقاً على شخصية ولف، إنسان يحمل موته معه أينما حل، يقول: «الحياة لم تبدُ لي يوماً ذات قيمة مميزة»، نحن أمام رجل لم تفارقه لحظة إطلاق الراوي النار عليه في الحرب، حياته اللاحقة كلها تأسست على ذلك، وفي لحظة يغيب فيها الفارق بين القاتل والضحية، يقول ولف للراوي: «أنت كنت متأكداً من أنك قتلتني، وأنا كنت متأكداً من أنك هلكت بسببي في نهاية المطاف، وكلانا لم يكن مصيباً، لكن أي معنى لهذا، أقصد أكنا مصيبين أم مخطئين، ما دمت أمضيت كل هذه السنوات في ندم عبثي، وأنا في انتظار استعادة المعجزة، من سيعيد لنا هذا الوقت، ومن سيغير مصيرك أو مصيري؟».
نحن أمام شخصيتين، الراوي النادم على القتل الذي وقع دون إرادته، والذي غير حياته كلها بناءً على هذا الخطأ، ووجد ملاذاً مؤقتاً في مهنة الصحافة، وسكناً لروحه وقلقه مع يلينا نيكولايفينا، وولف الذي عاش ببوهيمية متأملاً تلك الحادثة في أبعادها الروحية والإنسانية كافة، يتحول من جندي حرفته القتل إلى دون جوان وكاتب وإنسان مأزوم تجاه وجوده الفردي، هما الآن معاً، يتواجهان ولكن ليس بشروط الماضي، كل منهما يتفهم الآخر، لم يكونا إلا أداتين في يد قوة أكبر منهما، لم يكونا منذ خمسة عشرة سنة إلا دميتين في محنة الحرب التي تشوه الإنسان، الآن تغير كل هذا، نتيجة لاختلاف الشرط المكاني ولندوب السنوات ولتجارب أخرى، أيضاً للعصف الفكري الذي فعله كل منهما، وللعبة تبادل المواقع التي نفذها ولف وآمن بها الراوي، هما الآن أقرب إلى صديقين، يسهران معا.. يمزحان.. ويتسكعان في شوارع باريس ليلاً.
لم يخبر الراوي يلينا شيئاً عن ولف، أشار لها ذات مرة أنه مقبل على مغامرة مع طيف، وبعد اللقاء الثري مع ولف تتطور الأحداث سريعاً، حيث يدخل الراوي في مغامرة مع الشرطة بصفته الصحفية لإلقاء القبض على أحد المجرمين، مغامرة خارج سياق السرد تماماً، سنعرف لاحقاً أن جازدانوف وضعه فيها كي يحصل على مسدس، هي حادثة مصنوعة ومقحمة في السرد، ولكننا هنا في حضرة من أعلن مبكراً غواية أن نكون متحكمين في الأحداث، بعد انتهاء المغامرة يذهب الراوي ليزور يلينا، يسمع لغطاً في شقتها وهو على الدرج، يسرع بالدخول، وأصوات شجار تعلو من غرفة النوم، يقترب ومن خلال زجاج الغرفة المكسور يجد أحدهم يهاجم يلينا بمسدس، وهي تقاومه بعنف، يخرج مسدسه، ويطلق عليه رصاصتين، فيسقط على الأرض، وبعد أن يدخل يقترب من القتيل، ليقول: «كانت تحدق إليّ عينان ميتتان: عينا ألكسندر ولف».

أسئلة مربكة

الحرية في هذه الرواية أوسع من الاختيار الفردي، تتجاوز إرادة الإنسان، تكشف له عن وهم هذه الإرادة، فما قرره جازدانوف منذ البداية سيحدث لاحقاً، مهما حاولت شخصياته الفرار، ولذلك هو مفتون بلعبة المصادفة وبالهيمنة المطلقة على الحدث ولو كان غير مبرر أحياناً من وجهة نظر القارئ، أو مفتعلاً افتعالاً كما في حصول الراوي على مسدس، ولكن هذه الهيمنة كانت وسيلة جازدانوف لكي يضع الراوي أمام نفسه، هل تغير بالفعل؟ هل تطهر من الذكرى الأشد إيلاماً في حياته التي افتتح بها النص؟ هل تصرف بعد أن تخطى الثلاثين على نحو أفضل مما فعله وهو في السادسة عشرة؟ في الحرب كان منزوع الإرادة، ومن أجل الحياة - المرأة كان منزوع الإرادة أيضاً، فهل القتل ودوافعه تختلف في الحرب عن الحياة العامة؟ أم أن القتل واحد وكذلك القاتل والقتيل؟ ومن القاتل هنا ومن القتيل؟ من عاش معذباً بوهم أنه قتل في الحرب أم من قضى حياته وهو يستعد للموت، فموته الأول تخطاه؟ وماذا عن الموت الذي يطاردهما معاً؟ ومن هو الطيف في السرد.. الراوي أم ألكسندر ولف؟
ألكسندر ولف في هذه القصة كان يعرف أنه سيقتل يوماً ما، عاش في انتظار مُعذب لموته الحقيقي الذي سيأتي حتماً في لحظة ما، أما الراوي، فبدا من سياق الأحداث أنه حسم أمره، اتخذ قراره، في ألا يمارس القتل أبداً، ألكسندر ولف في العمق هو هو، لم يتغير، فمنذ سقط عن حصانه الأبيض القادم من سفر الرؤيا أول مرة فتح عينيه ليرى موته أخيراً، وكان على قناعة أن أحد أصدقائه سيلحق بالراوي ويقتله، أغمض جفنيه بهدوء، سلم نفسه بسكينة إلى الموت، ففي الحرب لا أهمية للفارق بين القاتل والقتيل، هم ليسوا شخصيات حية لها ماضٍ وحاضر ومستقبل، ولكن جازدانوف كان له رأي آخر، فالحياة العادية تمتلئ بتشوهات ربما تفوق الحرب، ألكسندر ولف لا ذاكرة له لتتعذب، هو القتيل الحي، ولذلك استمتع ظاهرياً بحياته في انتظار أن يضغط جازدانوف بواسطة الراوي على الزناد، أما الراوي، فسقط في وهم أنه أصبح أرقى، تطهرت ذاكرته من الحرب، شعر بالتغيير الكلي، الراوي هو الطيف في الواقع، طيف جازدانوف أو طيف ألكسندر ولف، الطيف الماكر الذي وهو يتسلى بضحيته، يتشدق برحمته وطيبته ويوهمها أنها في أمان.. يفتح أمامها أبواب الأمل، يدعها تغرق في الحياة حتى أذنيها، ولكنه لا يلبث أن يمحوها من الوجود في النهاية.
ولكن السخرية في النص تنبع من أن ألكسندر ولف كان مدركاً لهذا المكر عارفاً بألاعيبه، هو ليس البستاني في قصة الشاه، هو إنسان حقيقي، أكثر واقعية من الراوي ومن جازدانوف نفسه، ولذلك لم يقع في الفخ، ذهب ألكسندر ولف إلى قدره بقراره الخاص، وربما هو من يحرك الأحداث بأكملها، سقط عن حصانه، وترك الراوي يفر، وأرسل إليه «مغامرة في السهب»، ووضع صديقه في المطعم في طريقه، وهو من جعل يلينا المرأة المجربة تقع في غرام الراوي، ثم تصارع معها، ولم يقتلها بل جرحها، ووضع نفسه هدفاً سهلاً لا بد أن يقتله الراوي كي ينقذ يلينا.
ألكسندر ولف طيف سخر من قاتله، ولكنه في العمق كان يسخر منا جميعاً.

حتمية

في «طيف ألكسندر ولف»، حزمة من الأفكار تتعلق بحرية الإرادة، وبالمصير، بالبشر في لحظات ضعفهم، وبتلك الحتمية بين القاتل والقتيل، وبحوارات تدفعنا مرة لكي نسأل من القاتل ومن الضحية؟ وهل هناك من إمكانية في تبادل الأدوار في هذه الحياة؟

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"